كأن العراق في ظلّ التواجد والاحتلال الأميركي طيلة العقدين المنصرمين عاش أقصى مستويات الرخاء والازدهار والأمن والأمان، وأن كلّ ذلك سينتهي ويتلاشى بمجرد مغادرة الجنود الأميركيين
كلما ارتفعت وتيرة المطالبات السياسية والشعبية العراقية بإنهاء التواجد العسكري الأميركي من البلاد، كلما راحت الأوساط والمحافل السياسية، ومراكز صناعة القرار وتوجيه الرأي العام، ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأميركية تثير المخاوف والهواجس، وترسم صورًا قاتمة ومفزعة لمرحلة ما بعد الانسحاب، وكأن العراق في ظلّ التواجد والاحتلال الأميركي طيلة العقدين المنصرمين عاش أقصى مستويات الرخاء والازدهار والأمن والأمان، وأن كلّ ذلك سينتهي ويتلاشى بمجرد مغادرة الجنود الأميركيين، بينما الحقيقة الدامغة التي لا يمكن لأي كان أن يخفيها أو يتجاهلها ويقفز عليها، هي أن كلّ ما حلّ بالعراق من كوارث ومآسٍ وويلات كان وراءه الأميركيون، وليس فقط تلك التي حصلت بعد الاطاحة بنظام صدام، بل حتّى تلك التي حصلت خلال عهده المظلم، وتجلت واضحة عبر الحروب العبثية والسياسات الهوجاء، بمباركة ودعم وتشجيع من القوى الدولية الكبرى، وأتباعها في المنطقة.
وحتّى لا نستغرق بالكثير من التفاصيل والجزئيات في هذا السياق، سنكتفي بالإشارة إلى بعض ما كتبه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، الذي يعد منذ تأسيسه في عام 1985 من قبل لجنة العلاقات الأميركية الإسرائيلية (إيباك)، إحدى أبرز المؤسسات القريبة من الدوائر السياسية العليا في واشنطن، والمساهمة في بلورة وصياغة السياسات الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق والكثير من الدول الأخرى في المنطقة.
وعشية الزيارة المقررة لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للولايات المتحدة الأميركية منتصف شهر نيسان/أبريل الجاري، راح معهد واشنطن يطرح سيناريوهات تشاؤمية للعراق بعد مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي منه.
ومن بين هذه السيناريوهات التشاؤمية، سيناريو عودة تنظيم داعش الإرهابي. وفي مقال مطول نشره المعهد باللغتين العربية والانجليزية تحت عنوان (تهديد تنظيم داعش المستمر في العراق بعد انسحاب التحالف الدولي)، يرى معهد واشنطن، أنه “يخطئ البعض هنا عندما يعتقد أن التحدّي الوحيد أمام التطرّف هو التحدّي العسكري فقط، متجاهلين الآلية التي نشأ بها التنظيم في المقام الأول، وهي العامل الاجتماعي المتمثل بالمظالم الناتجة عن التوترات بين المكونات الرئيسة في المجتمع العراقي. والآن وبعد هزيمة التنظيم عسكريًا مرة أخرى وتدمير شبكاته في المدن بشكل شبه كامل، ما زال التنظيم متغلغلًا في المناطق الريفية الصحراوية والتي تشكّل حاضنة وجوده الرئيسة. وفي غياب الردع النشط والمستمر، قد تتطلع هذه القوات إلى الاستفادة من تدهور الوضع الأمني والحكم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرتها سابقًا”.
ويشير المقال كذلك إلى أنه “بعد الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، ومع تراجع قدرات القوات الأمنية العراقية، استغل تنظيم “داعش” هذه الفترة لإعادة بناء قدراته. وفي الوقت عينه، أدى تسييس القيادة العسكرية إلى استبدال القادة الأكفاء بأفراد أكثر ولاءً، مما أدى إلى انخفاض القدرات القتالية والروح المعنوية بشكل عام. ومن الناحية العملية، أدت المساحة التي وفرها الانسحاب الأميركي الأول من العراق للجماعات المتطرّفة، إلى حدوث انهيار أمني بعد هجوم تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل عام 2014، مما سمح للتنظيم بالسيطرة على أجزاء كبيرة من العراق”.
بيد أن المقال لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى الظروف التي نشأ وظهر فيها تنظيم القاعدة قبل ذلك، حيث كان عديد القوات الأميركية في عموم العراق يتجاوز المائة وخمسين الف جنديّ، وكان كلّ زمام الامور بأيدي تلك القوات. ولا يشير المقال أيضًا إلى أن تنظيم داعش، الذي ولد من رحم تنظيم القاعدة، نشأ وترعرع وتوسع تحت مرأى ومسمع الولايات المتحدة الأميركية وجيوشها وأساطيلها الجرارة التي كانت وما زالت تصول وتجول في المنطقة من خلال قواعدها العسكرية المنتشرة في دول الخليج وتركيا والأردن ومصر وغيرها من الدول. ولعل تأكيد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن وزيرة الخارجية السابقة ومنافسته الرئاسية هيلاري كلينتون ورئيسها باراك اوباما هما من صنعا تنظيم داعش، لم يأت من فراغ، ولم يكن مجرد افتراءات إعلامية في إطار الحملات الانتخابية.
أضف إلى ذلك، فإن من ألحق الهزيمة بتنظيم داعش ودفع خطره عن العراق والمنطقة، هم العراقيون أنفسهم، من قوات الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات الحشد الشعبي والحشد العشائري وقوات البيشمركة الكردية، وليس القوات الأميركية. ومن السذاجة تصور أن خروج الأميركيين من البلاد سيؤدي إلى عودة داعش، في ظلّ تطوّر وتنامي القدرات القتالية لمختلف القوات العراقية، ومعالجة معظم – إن لم يكن كلّ – الاخطاء والسلبيات السابقة، فضلًا عن الاستقرار السياسي والسلم المجتمعي الواضح بعد اعوام من الفوضى والاضطراب.
والسيناريو التشاؤمي الآخر الذي روج له معهد واشنطن مع قرب زيارة السوداني لواشنطن، هو سيطرة إيران على مفاصل الدولة العراقية من خلال الفصائل المسلحة المدعومة من قبلها. وجاء ذلك في مقال تحت عنوان، (تجنب استيلاء الميليشيات المدعومة من إيران على السلطة السياسية في العراق بعد الانسحاب الأميركي)، والذي يسوق أنه “من الضروري أن يبقى الوجود الأميركي ملموسًا على الأرض في العراق. فإذا نجحت إيران ووكلاؤها في طرد جميع القوات الأميركية من العراق وتقليص النفوذ الدبلوماسي الأميركي، ستزداد الميليشيات النافذة جرأةً وتحكّمًا بالاقتصاد العراقي والأجهزة الأمنية العراقية. ويرى البعض أن هذه السيطرة بدأت بالفعل وهي تعرض قدرة العراق على الاستقلال عن السيطرة الإيرانية للخطر وتزيد من احتمالات وقوع الشرق الأوسط تحت هيمنة طهران ومحور المقاومة التابع لها”.
ولعل الحقائق الماثلة على الأرض، تؤكد ان إيران هي من ساعدت العراق ودعمته وساندته في تجاوز الكثير من المخاطر والتحديات، وأبرزها خطر تنظيم داعش الإرهابي، فضلًا عن كونها كانت في مقدمة الدول التي انفتحت على العراق بعد سقوط نظام صدام، رغم الكمّ الكبير من المشاكل والأزمات بين الطرفين بفعل حرب الثمانية أعوام (1980 – 1988) وتداعياتها وآثارها الكارثية. ويخطئ من يفترض أن مشكلة العراق تكمن في إيران، بقدر ما تكمن في الولايات المتحدة الأميركية، وتجربة الاعوام العشرين المنصرمة أثبتت وتثبت تلك الحقيقة.
وأكثر من ذلك، يرى معهد واشنطن من خلال هذا المقال إنه “يتعين على واشنطن وحلفائها إيجاد طرق لتكبيد السياسيين العراقيين ثمنًا أكبر لقاء تطبيعهم دور الميليشيات وإخضاع الدولة العراقية لحكام طهران. وفي هذا الإطار، تسمح الحكومة العراقية برئاسة السوداني بتدفق المليارات كلّ عام من ميزانية العراق إلى الجماعات الإرهابية التي تعمل تحت راية “الحشد الشعبي”.
وهو بعبارة أكثر وضوحًا يدعو الإدارة الأميركية إلى تعزيز وجودها في العراق ومحاربة الحشد الشعبي، لأنه – أي المعهد – يعتبر بعض الفصائل المنضوية فيه جماعات إرهابية، علمًا أن تلك الفصائل هي التي واجهت تنظيم داعش وألحقت الهزيمة به. وإن الدعم الإيراني بالمال والسلاح كان له الاثر الكبير والمهم في دحر داعش.
وفوق ذلك، يتمحور المقال المذكور حول هدف معين يتمثل بإلصاق كلّ المشاكل والسلبيات، حتّى في إقليم كردستان، بإيران والقوى القريبة منها أو المرتبطة بها، بينما يؤكد حجم التعقيد والتشابك والتداخل في الواقع العراقي العام، أن الولايات المتحدة وخلفها بعض القوى الدولية والإقليمية، لعبت الدور الأكبر والأخطر في إغراق العراق بالمشاكل والازمات السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية، منذ اليوم الأول بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، وهي التي استخدمت الساحة العراقية لتصفية حساباتها مع إيران، بل، السعي والتخطيط لإسقاط النظام السياسي في طهران من البوابة العراقية.
ولا شك أنه بعد تجربة العقدين المنصرمين، بكلّ ما حفلت به من تداعيات، باتت مجمل الامور مفهومة وواضحة، ومثلما أنه من الصعب أن ينطلي هذا التسويق الاعلامي البائس لمعهد واشنطن على من يريد أن يفهم، فإن السوداني سيذهب إلى واشنطن وهو يعرف المطلوب سياسيًّا وشعبيا، ويعرف أين تكمن المشكلة الحقيقية في العراق، وأين يكمن الحل، ولعل هذا ما أشار إليه بشكل أو بآخر في مقاله الموسع في مجلة “فورين افيرسforeign affairs ” قبل أيام قلائل من توجهه إلى واشنطن.