أربعينية الامام الحسين (ع) في كربلاء
بقلم الشيخ حسين انصاريان
الأربعون سر من أسرار الله تعالى لم يصل أحد من العلماء إلى هذا السر الرباني ، فقد ورد في كتاب الله العزيز : (( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً )) (1) .
وقال بشأن قوم موسى (عليه السلام) : ((قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)) (2).
وقال تعالى : (( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ )) (3) .
وفي الأحاديث الشريفه يتم ذكر عدد الأربعين ، حيث قال الإمام الصادق : ((من حفظ من شيعتنا 40 حديثاً ؛ بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً فلم يعذبه)) (4).
وفي مورد آخر من حديث الإمام الصادق (عليه السلام) : (( إذا مات المؤمن فحضر جنازته أربعون رجلاً من المؤمنين ، فقالوا اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرا وأنت أعلم به منّا ، قال الله تبارك وتعالى قد أجزت شهادتكم ، وغفرت له ما علمت مما لا تعلمون )) (5) .
وقال (عليه السلام) : ((من قدم في دعائه أربعين من المؤمنين ، ثم دعا لنفسه ؛ استجيب له )) (6) .
وقد ورد عن أبي ذر الغفاري وابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وآله) : (( إنَ الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً )).
ولم يقتصر ذكر الأربعين للمسلمين فقط ، بل حتى غير المسلمين لديهم اعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً من وفاته .
وكل هذا يؤيد ويؤكد هذه الطريقة المألوفة ، والعادة المستمرة بين الناس من الحداد على الميت أربعين يوماً ، فإذا كان يوم الأربعين أقيم على قبره الاحتفال بتأبينه ، يحضره أقاربه وخاصته وأصدقاءه ، وهذه العادة لم يختص بها المسلمون ، فإنّ النصارى يقيمون حفلة تأبينية يوم الأربعين من وفاة فقيدهم ، يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصلاة عليه المسمّاة عندهم بصلاة الجنازة ، ويفعلون ذلك في نصف السنة وعند تمامها ، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً ، وبمرور تسعة أشهر وعند تمام السنة (7) .
وكل ذلك إعادة لذكراه ، وتنويهاً بآثاره وأعماله إن كان من العظماء .
فكيف لايتم إحياء ذكرى الأربعين في كربلاء عند الإمام الحسين !!! ، قال الإمام الباقر (عليه السلام) : (( إنَ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً ، تطلع حمراء وتغرب حمراء )) (8).
يقول الشاعر :
إذا شئت النجاة فزر حسيناً *** لكي تلقى الإله قرير عينِ
فإن النار ليس تمس جسماً *** علية غبار زوار الحسينِ
كما ورد عن الإمام جعفر الصادق قولُه : (( إنّ السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم ، وإنّ الأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد ، وإنّ الشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وإنّ الملائكة بكت عليه أربعين صباحاً)) (9).
ولمّا كانت مزايا الإمام الحسين وفجائعه لاتُحدّ … لم تتوقّف هذه السُنة الشريفة ، وهي احياء مناسبة زيارته من قِبل اسرته ، قال الشيخ المجلسيّ : عن المناقب : ذكر الشريف المرتضى في بعض مسائله أنّ رأس الحسين رُدّ إلى بدنه بكربلاء من الشام ، وضُمّ إليه ، وقال الشيخ الطوسيّ: ومنه « زيارة الأربعين » (10).
ففي خبر عن الإمام العسكري (عليه السلام) قال: (( قد عدّ من علامات المؤمن ؛ زيارة الأربعين)) (11) .
وفي خبر صفوان بن مهران الجمال قال : قال لي مولاي الصادق في زيارة الأربعين (( تزور عند ارتفاع النهار )) (12) .
فهذه هي علامات المؤمن المُسَلِّم لأوامر الله تعالى ، ومنها موالاة أوليائه ومودتهم ، وقد قال عز من قائل : (( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) ، والإمام الحسين من أقرب قربى رسول الله ، ومن مصاديق المودة : إحياء الذكرى ، والمواساة مع التأسي ، والتفاعل الروحي والقلبي بسيرته ، وماجرى عليه صلوات الله عليه .
ونذكر لكم مجيء جابر (رض) إلى كربلاء التي تشمل فوائد كثيرة ، فقد روى الشيخ الجليل عماد الدين أبو القاسم الطبري الآملي ، وهو من أجلاء فن الحديث ، في كتابه بشارة المصطفى مسنداً عن عطية بن سعد بن جنادة العوفي – من رواة الإمامية ، وقد صرّح أبناء العامة في رجالهم بصدق حديثه – ، أنه قال : خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله) زائرين قبر الحسين ، فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات ، فاغتسل ثم ائتزر بازار وارتدى بآخر ، ثم فتح صُرة فيها سعُد (13) فنثرها على بدنه ، ثم لم يخطُ خُطوة إلاّ ذكر الله ، حتى إذا دنى من القبر قال : ألمسنيه ـ أي خذ بيدي إلى القبر ـ فألمسته فخَرَّ على القبر مغشيّاً عليه ، فرششتُ عليه شيئاً من الماء فأفاق ، وقال : يا حسين ثلاثاً ، ثم قال : حبيب لا يجيب حبيبه ، ثم قال : وأنى لك بالجواب ، وقد شحطت أوداجك على اثياجك (14) وفرّق بين بدنك ورأسك … الخ ، ثم جال ببصره حول القبر وقال : السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين ، وأناخت برحله … ، إلى أن قال : لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه ، قال عطية : فقُلتُ لجابر : وكيف ولم نهبط وادياً ، ولم نعلُ جبلاً ، ولم نضرب بسيفٍ ، والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، وأيتمت أولادهم وأرملت الأزواج ؟ .
فقال لي : يا عطية سمعتُ حبيبي رسول الله يقول : (( مَن أحبَّ عمل قومٍ ؛ أشرك في عملهم )) ، والذي بعث محمداً بالحق نبيّاً ، إن نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه … ، (15) .
قال الراوي : فلما صرنا في بعض الطريق ، فقال لي : يا عطية هل أوصيك ؟ وما أظن أنني بعد هذه السفرة ملاقيك ، أحبْ محبَّ آل محمدَ ما أحبهم ، وابغض مبغض آل محمد ما أبغضهم ، وإن كان صواما قواماً ، وارفق بمحب آل محمد ، فإنه إن تزل لهم قدم بكثرة ذنوبهم تثبت لهم أخرى بمحبتهم ، فإن محبهم يعود إلى الجنة ومبغضهم يعود إلى النار (16).
وزيارة الأربعين لها دلالات كثيرة ومعاني ، وهي رساله واضحة المعالم إلى كل الطغاة ، بأن تواصلنا مع الحسين هي قضية مبدأ ، وتعتبر مراسم زيارة الأربعين إلى الإمام الحسين صرخة مدوية ضد الظالمين والطغاة ، وتحفز الزائرين على المجىء الى كربلاء من أجل تجديد البيعة للإمام الحسين ، وبالمقابل هي نداء واضح لكل المشككين بأننا لن نقطع درب الحسين إلى ظهور الإمام الحجة (عج) ، وكل هؤلاء الزوار يقدمون الغالي والنفيس من الأموال إلى الأرواح من أجل نصرة قضية الحسين ، ونحن مستمرين على هذا المنوال نحن وأبناءنا ، ولن تثنينا كل أدوات الإرهاب من تفجيير إلى تفخيخ ، بل على العكس هي تزيدنا إصرارا على الذهاب إلى كربلاء ، من أجل نيل الشهادة في سبيل الله على طريق الإمام الحسين وفي دربه .
وأضف الى تلك الفوائد من الزيارة في السير مشياً على الأقدام إلى كربلاء المقدسة ، هي الفوائد الصحيّة الكبيرة جرّاء المشي وهذه المسافات الطويلة ، ومايترتب عليها من آثار إيجابية .
والزيارة نوع من أنواع مدى قوة الإرتباط بين المسلمين ، والذي حاربه أعداء الشيعة على مر العصور السابقة … ، وقبل كل ذلك جاهد الإمام الحسين (عليه السلام) لنيل أسمى المقاصد ، وأنْبل الغايات ، وقام بما لم يَقُم بمثله أحد … ، فبذل عليه أفضل الصلاة والسلام نفسه ، ومالَه وآله وأصحابه ، في سبيل إحياء الدين ، وإظهار فضائح المنافقين ، واختار المنيَّة على الدنيَّة ، وميتة العز على حياة الذل ، ومصارع الكرام على اللئام .
أليس من الحق أن تقام له الذكرى على ما جرى عليه في كل عام ، بل وفي كل يوم ، وتبكي له العيون بدل الدموع دما .
فقد قال الإمام الحسين : (( أنا قتيل العبرة ، ما ذُكرتُ عند مؤمن إلاّ ودمعت عيناه )) .
وبكى الإمام زين العابدين على مصيبة أبيه الإمام الحسين ثلاثين سنة … ، وكان الإمام الصادق يبكي لتذكر المصيبة ، ويستنشد الشعر في رثائه ويبكي … ، وكان الإمام الكاظم إذا دخل شهر محرم لا يُرَى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلُبُ عليه … ، وقال الإمام الرضا : (( إنَّ يَومَ الحسين أقرحَ به جُفونَنا ، وأسال دموعنا ، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء)) .
ويمضي الموالون لأهل البيت على تجديد العهد في يوم الأربعين من كلّ سنة ، يتذكّرونه ويُذكّرون به ، ويتثبّتون على أصله ، في حديث الإمام الحسن العسكريّ : (( علامات المؤمن خمس : صلاة الإحدى والخمسين ( وهي الفرائض اليوميّة مع النوافل ) ، وزيارة الأربعين ( وهي زيارة الحسين في أربعينيّة شهادته ، والألف واللام في كلمة الأربعين تُسمّى للعهد ، فهي زيارة معهودة مشهورة) ، والتختّم باليمين (التزاماً بسُنّة النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم) ، وتعفير الجبين (بالسجود على الأرض ، خضوعاً لله تعالى وتذلّلاً في محضره القدسيّ)، والجهر بـ « بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم » (وذلك وجوباً في الصلاة الجهريّة) )) .
لذلك نزورعند ارتفاع النهار ونقول :
(( اَلسَّلامُ عَلى وَلِيِّ اللهِ وَحَبيبِهِ ، اَلسَّلامُ عَلى خَليلِ اللهِ وَنَجيبِهِ ، اَلسَّلامُ عَلى صَفِيِّ اللهِ وَابْنِ صَفِيِّهِ ، اَلسَّلامُ عَلى الْحُسَيْنِ الْمَظْلُومِ الشَّهيدِاَلسَّلامُ على اَسيرِ الْكُرُباتِ وَقَتيلِ الْعَبَراتِ ، اَللّـهُمَّ اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ ، اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ ، وَذائِداً مِنْ الْذادَةِ ، وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاَْنْبِياءِ ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الاَْوْصِياءِ ، فَاَعْذَرَ فىِ الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا ، وَباعَ حَظَّهُ بِالاَْرْذَلِ لاَْدْنى، وَشَرى آخِرَتَهُ بِالَّثمَنِ الاَْوْكَسِ ، وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ، وَاَسْخَطَكَ وَاَسْخَطَ نَبِيَّكَ ، وَاَطاعَ مِنْ عِبادِكَ اَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَْوْزارِ الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ ، فَجاهَدَهُمْ فيكَ صابِراً مُحْتَسِباً حَتّى سُفِكَ فِي طاعَتِكَ دَمُهُ وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ ، اَللّـهُمَّ فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً اَليماً ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ سَيِّدِ الاَْوْصِياءِ ، اَشْهَدُ اَنَّكَ اَمينُ اللهِ وَابْنُ اَمينِهِ ، عِشْتَ سَعيداً وَمَضَيْتَ حَميداً وَمُتَّ فَقيداً مَظْلُوماً شَهيداً، وَاَشْهَدُ اَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ ما وَعَدَكَ ، وَمُهْلِكٌ مَنْ خَذَلَكَ، وَمُعَذِّبٌ مَنْ قَتَلَكَ ، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ وَفَيْتَ بِعَهْدِ اللهِ وَجاهَدْتَ فِي سَبيلِهِ حَتّى اَتياكَ الْيَقينُ ، فَلَعَنَ اللهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ظَلَمَكَ، وَلَعَنَ اللهُ اُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ، اَللّـهُمَّ اِنّي اُشْهِدُكَ اَنّي وَلِيٌّ لِمَنْ والاهُ وَعَدُوٌّ لِمَنْ عاداهُ بِاَبي اَنْتَ وَاُمّي يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، اَشْهَدُ اَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فىِ الاَْصْلابِ الشّامِخَةِ وَالاَْرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجاهِلِيَّةُ بِاَنْجاسِها وَلَمْ تُلْبِسْكَ الْمُدْلَهِمّاتُ مِنْ ثِيابِها، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ مِنْ دَعائِمِ الدّينِ وَاَرْكانِ الْمُسْلِمينَ وَمَعْقِلِ الْمُؤْمِنينَ ، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ الاِْمامُ الْبَرُّ التَّقِيُّ الرَّضِيُّ الزَّكِيُّ الْهادِي الْمَهْدِيُّ ، وَاَشْهَدُ اَنَّ الاَْئِمَّةَ مِنْ وُلْدِكَ كَلِمَةُ التَّقْوى وَاَعْلامُ الْهُدى وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقى ، وَالْحُجَّةُ على اَهْلِ الدُّنْيا ، وَاَشْهَدُ اَنّي بِكُمْ مُؤْمِنٌ وَبِاِيابِكُمْ ، مُوقِنٌ بِشَرايِعِ ديني وَخَواتيمِ عَمَلي ، وَقَلْبي لِقَلْبِكُمْ سِلْمٌ وَاَمْري لاَِمْرِكُمْ مُتَّبِعٌ وَنُصْرَتي لَكُمْ مُعَدَّةٌ حَتّى يَأذَنَ اللهُ لَكُمْ ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ عَدُوِّكُمْ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَعلى اَرْواحِكُمْ وَاَجْسادِكُمْ وَشاهِدِكُمْ وَغائِبِكُمْ وَظاهِرِكُمْ وَباطِنِكُمْ آمينَ رَبَّ الْعالِمينَ )) .
ثم تصلي ركعتين وتدعوا بما أحببت وترجع (17) .