آخر الأخبارالمقالاتسوريا

المنافسات الخفية وتصدُّع السلطة: هل تسير سوريا نحو مصير ليبيا؟

يشكل سقوط نظام بشار الأسد منعطفًا جذريًا في المسار السوري، حمل في طياته جرعةً من الأمل لشعب أنهكته الحرب، لكنه أيضًا فتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعقيدات والتهديدات الوجودية. فبدلاً من أن يُشكِّل منعطفًا نحو الاستقرار، أفضى الانهيار إلى ولادة كيان هش بقيادة “هيئة تحرير الشام“، سرعان ما كشف عن عجزه عن إدارة دولة، وعن عدم رغبته في بناء نظام حكم شامل.

في هذا المشهد المتشظي، تبرز المنافسات الخفية بين المجموعات المسلحة كقوة تفكيكية تهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي المتبقي، مما يضع سوريا على منحدر سيناريو كارثي يشبه إلى حد كبير ما حدث في ليبيا، حيث تذوب سيادة الدولة وتتحول إلى ساحة لصراعات لا نهائية.

فصائل المسلحة في سوريا
فصائل المسلحة في سوريا

أكد العديد من الملاحظين السياسيين أن هذا الحدث قد يمنح الشعب السوري – الذي يعاني من ظروف قاسية – جرعة من الأمل المؤقت، لكنه حذّر من أن طبيعة المجموعة التي تولت السلطة ستجعل تحقيق الاستقرار على المدى الطويل أمرًا مستحيلاً.

وفقًا لتقرير لمجموعة الشؤون الدولية في وكالة “آماج الإخبارية”، بعد ديسمبر (30\5\1446 هـ.ق / 02\12\2024 م) وسقوط بشار الأسد، غرقت سوريا في أعمق فترات الاضطراب وعدم الاستقرار في تاريخها.

بدأ الأمر بالتوترات في محافظة السويداء، التي استغلها النظام الصهيوني كذريعة لتوسيع اعتداءاته واحتلاله في جنوب البلاد، وصولاً إلى الاحتجاجات الواسعة للأقلية العلوية في محافظات الساحل الغربي، والتي قوبلت بقمع دموي من عناصر تابعة للمجموعات المسلحة الحاكمة في دمشق.

قبل ذلك، كان الملاحظون السياسيون يرون أن سقوط حكومة الأسد قد يبعث الأمل لدى السوريين – الذين يواجهون صعوبات سياسية واقتصادية واجتماعية – في البديل المؤقت، إلا أن طبيعة “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني، التي تولت السلطة بعد الأسد، إلى جانب اعتمادها الشديد على اللاعبين الإقليميين والدوليين، يجعل إقامة نظام مستقر في سوريا على المدى البعيد أمرًا بعيد المنال.

استنفار عسكري في مثلث الحدود السورية مع الأردن والعراق..
احتكار السلطة وإقصاء المكونات

كما كان متوقعًا، سرعان ما أظهرت الحكومة التابعة للجولاني عدم رغبتها في مشاركة السلطة أو تقسيمها بين المجموعات المختلفة. منذ الأيام الأولى، عمل الجولاني على تعيين عناصره في المناصب الرئيسية، وكان تشكيل برلمان تابع تمامًا وغير شعبي الخطوة الأخيرة في تعزيز أسس حكمه داخليًا.

أحمد الشرع، أو الجولاني السابق، لم يخصص أي حصة للأقلية العلوية البارزة أو غيرها من الأقليات، بل واصل قمعها بلا هوادة.كلما ابتعدنا عن ديسمبر وانهيار النظام السابق، انكشفت آمال الجزء الأول من المجتمع السوري في حكومة الجولاني، وانخفضت تدريجيًا بين المجموعات العرقية والاجتماعية الأخرى، مما أشعل النار تحت الرماد في سوريا.

يُعد الوحدة الترابية لسوريا أبرز نقاط الضعف في “هيئة تحرير الشام”، التي فرضت سيطرتها على سوريا بدعم من مثلث تركيا وقطر وأمريكا والكيان الصهيوني. يرى المحللون أن نظام الأسد، رغم عيوبه وعدم قدرته على تمديد مظلته السياسية إلى الجميع، حافظ نسبيًا على الوحدة الترابية للبلاد.

صحيح أنه لم يكن له نفوذ مطلق في إدلب أو السويداء أو المحافظات الشرقية، لكنه نجح – بفضل حلفائه – في الحفاظ على سيادته غير المستقرة ترابيًا، وتمديدها إلى محيط سوريا في الأزمات. لذا، رغم الهجمات الإسرائيلية العرضية، تمكن من الحفاظ على سيطرته على المحافظات الجنوبية مثل السويداء، والحدود مع الجولان المحتل، والمناطق المجاورة لتركيا والعراق.

أما حكومة الجولاني، فقد فشلت منذ اليوم الأول في التعامل مع الوحدة الترابية كخط أحمر حاسم. واجهت حكومة الجولاني الانتهاكات المتكررة للسيادة والوحدة الترابية من تركيا وأمريكا والكيان الصهيوني بالصمت التام، وتجاهلت الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة والاحتلال الجديد في الجنوب.

بل إنها أجرت مفاوضات علنية مع الإسرائيليين، وأعلنت رغبتها في تطبيع العلاقات معهم.كلما تصاعدت الهجمات الإسرائيلية على دمشق ومناطق أخرى وتوسع الاحتلال، برز ضعف حكومة الجولاني وخمولها أكثر فأكثر. وبفارق طفيف، شهدنا انتهاكات مشابهة من تركيا، حيث أدى وجود ألويتها العسكرية بحجة مكافحة “الإرهابيين” مثل الأكراد إلى تواجد دائم في سوريا، خاصة في المدن الكردية.

مشاركة قوات الأمن في مذابح طائفية بسوريا تعمّق الأزمة السياسية وتستدعي تدخلاً دولياً
صراعات مسلحة وخيوط هشة

يحذّر مراقبون من تصاعد المنافسات الخفية بين المجموعات المسلحة المختلفة في ظل غياب هيكل حكومي واضح، مما يزيد من الهشاشة الأمنية. لقد تفاقمت التوترات بين “هيئة تحرير الشام” المسيطرة على دمشق والفصائل المسلحة الأخرى، مما يهدّد هيكل الحكومة “الانتقالية” ويُنذر بانفجار النزاعات المكبوتة.

أما أمريكا، فتواصل توسيع وجودها العسكري غير الشرعي بحرية تامة.المنافسات الخفية للمجموعات المسلحة..

يحذّر مراقبو التطورات السورية من تصاعد المنافسات الخفية بين المجموعات المسلحة المختلفة، وعدم وجود هيكل حكومي واضح، مما يزيد من الهشاشة الأمنية. هذا الوضع – الناتج عن اختلاط السلطات المحلية والمركزية – يقرّب سوريا يومًا بعد يوم من الظروف الأمنية الكارثية في ليبيا.

تفاقمت التوترات بين “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني (أحمد الشرع) – التي تسيطر على دمشق – وبين الفصائل المسلحة الأخرى، وسط هشاشة أمنية حادة، مما يهدّد هيكل الحكومة “الانتقالية” ويُنذر بانفجار النزاعات المكبوتة.أثار سلسلة من الحوادث الأمنية الأخيرة شكوكًا متزايدة حول الهيكل الأمني الذي يفرضه مسؤولو الحكومة الانتقالية للسيطرة على البلاد.

توضح المصادر الإخبارية أن هذا الهيكل يجمع بين بنية جماعية تعتمد على الولاء للقادة، وبنية مركزية مستقلة تسعى لتحالفات مع القوى الإقليمية والدولية. هذا التعقيد يخلق مشهدًا معقدًا بين المستويات الجماعية والمركزية، ممهدًا لانفجارات وأزمات متتالية.خلافًا لأيام الحرب في إدلب، حيث نجحت “تحرير الشام” بقيادة الجولاني في توحيد عشرات المجموعات تحت مظلتها عبر تقسيم الغنائم والامتيازات مثل السيطرة على ممرات التهريب، فإن تطبيق هذا النموذج على نطاق أوسع في سوريا يواجه تحديات كبيرة.

السبب في ذلك تغيّر الظروف، مثل انتهاء الحرب الأهلية الواسعة، والمفاوضات الأمريكية مع “قسد” في الشمال، والدعم الإسرائيلي المنفعي للدروز في السويداء، وجهود الحكومة الانتقالية لبناء هيكل اقتصادي وسياسي وأمني مركزي.تُبرز المصادر أن أحد أكبر التحديات هو السيطرة على الفصائل الخارجية للمجموعات المسلحة، التي كانت قوة صدمة لـ”تحرير الشام”.

واجهت محاولات إذابتها أو تنظيمها تحت وزارة الدفاع مقاومة شديدة.أثار اعتقال “أبو دجانة التركستاني” – مقاتل أويغوري إرهابي مشهور على تيك توك – احتجاجات واسعة بين الأويغور، الذين يصفون أنفسهم بـ”المهاجرين”، مما عمّق الشقاق مع المجموعات التكفيرية المحلية “الأنصار”. وإذا نجحت خطة دمج “قسد” – عدو هذه المجموعات – في وزارة الدفاع، فسيتصاعد الشقاق أكثر.

من جانب آخر، أفادت “ميدل إيست نيوز” بعملية أمنية مشتركة يوم الأحد الماضي بين التحالف الأمريكي والحكومة الانتقالية في “معضمية القلمون” قرب دمشق، أسفرت عن اعتقال ثم موت مشبوه لـ”خالد المسعود” بتهمة انتماء إلى داعش.

أثار ذلك احتجاجات مسلحة من مسلحي قبيلة العنزة، مؤيديه.وصف أنصار المسعود إياه بأنه انفصل عن داعش وأصبح زعيمًا إقليميًا، واتهموا قادة “الجيش السوري الحر” المدعوم أمريكيًا بتلك التقارير الكيدية التي أدت إلى اعتقاله وقتله.

يرى المراقبون والمحللون أن هذه التطورات تكشف عن شبكة مترابطة من مراكز الأزمات الجاهزة للانفجار في المناطق الخاضعة للحكومة الانتقالية: من الشمال الغربي حيث تتركز المجموعات الخارجية، إلى المدن الرئيسية حيث يتنافس “تحرير الشام” والفصائل الأخرى على السيطرة والابتزاز.

في المناطق ذات التداخل القبلي والجماعي، أو حيث ينشط “الجيش السوري الحر” بقيادة أمريكية، أو في شمال الشرق تحت نفوذ تركيا عبر “الجيش الوطني” على خطوط التماس مع “قسد”، أو حتى في أقصى الجنوب حيث يختلط القبلي بالجماعي، كل ذلك يولّد رمادًا مشتعلًا جاهزًا للانفجار.

بناءً على سهولة سقوط الأسد وجيشه، يعتقد المجموعات المختلفة أن أي ضغط اجتماعي أو عسكري بسيط يمكن أن يسقط النظام الجديد. يتردد هذا الاعتقاد بين القوات العسكرية في سوريا: إذا أسقطت “تحرير الشام” الأسد في أسبوع، فلماذا لا نستطيع إسقاط هذه الميليشيا التي انتزعت السلطة ذاتيًا وأعلنت الحكم؟يؤكد المراقبون أن الوضع الحالي يعكس غياب هيكل حكومي واضح، مع منافسات خفية قبلية وجماعية وإقليمية ودولية، مما يعزّز الهشاشة الأمنية في المركز. هذا يشبه تدريجيًا ما يعيشه طرابلس في ليبيا، حيث تحكم “حكومة الوحدة الوطنية” لكنها تغرق في واقع أمني مدمر منذ تأسيسها. وهو التحذير الذي أطلقه مؤخرًا “غير بيترسن”، المبعوث السابق للأمم المتحدة إلى سوريا.

هيئة تحرير الشام الإرهابية
هيئة تحرير الشام الإرهابية


بشكل عام، تؤكد التطورات في سوريا ما بعد الأسد أن سقوط النظام لم يكن سوى بداية لأزمة أعمق. لقد فشلت حكومة “هيئة تحرير الشام” في تقديم أي من وعود الاستقرار، بل على العكس، فقد أدارت ظهرها لأهم مقومات الدولة المتمثلة في الوحدة الترابية، وسلَّمت بمشاريع الاحتلال والتقسيم عبر صمتِها المطبق بل وتطبيعها العلني مع العدو الصهيوني. الأكثر خطورة هو ذلك التفكك الداخلي الذي تغذيه المنافسات الخفية بين المجموعات المسلحة، والتي لم تعد خافيةً، حيث يكشف غياب الهيكل الحكومي الواضح واختلاط السلطات عن بيئة خصبة لانفجار النزاعات المكبوتة.

وبناءً عليه، فإن التشابه مع السيناريو الليبي لم يعد مجرد تحذير، بل أصبح واقعًا ملموسًا يتشكل يومًا بعد يوم. إن هشاشة السلطة المركزية، وتعدد مراكز القوى المتنافسة من شمال إلى جنوب، والتدخلات الإقليمية والدولية المباشرة، كلها عوامل تدفع البلاد نحو هاوية الفوضى المستدامة. الخلاصة الحتمية هي أن النظام البديل، بقدرته المحدودة على الحكم واعتماده على ولاءات قبلية وعسكرية متصارعة، لم يتمكن من ملء الفراغ الذي تركه سقوط الأسد، بل حوَّل سوريا إلى كيان هش يشبه طرابلس الغرب، حيث تحكم “حكومة” اسمًا، لكنها تغرق في واقع أمني وسياسي مدمر، مما يؤكد أن مخاوف تكرار السيناريو الليبي باتت وشيكة ومحتملة أكثر من أي وقت مضى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى