في خطوة تاريخية غير مسبوقة، أعلن حزب العمال الكردستاني (PKK) حله الذاتي في عام 2025، منهياً بذلك صراعاً مسلحاً دام أكثر من أربعة عقود مع الحكومة التركية
هذا القرار، الذي جاء تلبية لدعوة زعيمه المسجون عبد الله أوجلان، يشكل نقطة تحول كبرى في مسيرة القضية الكردية، حيث يمهد الطريق لتحولات جذرية في المطالب الشعبية والسياسية بالمنطقة. وبينما يخفت صدى العنف المسلح، يتصاعد مطلب جديد بقوة: طرد الاحتلال التركي من المناطق الكردية في سوريا والعراق، وهو ما يعكس تطلعات شعبية واسعة ورؤية سياسية تهدف إلى استعادة السيادة والحقوق عبر مسارات سلمية. فما الذي يعنيه هذا التحول لمستقبل الأكراد؟ وكيف يمكن أن يؤثر على استقرار المنطقة والعلاقات بين تركيا وجيرانها؟ في هذا المقال، نستعرض أبعاد هذا المطلب الجديد وتداعياته الإقليمية، مستندين إلى تطورات حديثة ومصادر موثوقة تشير إلى بداية مرحلة جديدة في الصراع الكردي-التركي.
1. الخلفية التاريخية: جذور الصراع وتحولاته
يعود الصراع التركي-الكردي إلى تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، عندما تبنت الدولة سياسات قومية متشددة تجاه الأقليات، خاصة الأكراد، حيث مُنعوا من التحدث بلغتهم أو ممارسة تقاليدهم. في هذا المناخ، تأسس حزب العمال الكردستاني (PKK) عام 1978 بقيادة عبد الله أوجلان، الذي دعا إلى إنشاء دولة كردية مستقلة، قبل أن يتحول إلى كفاح مسلح ضد الدولة التركية بدءاً من 1984.
شهد الصراع تطورات متعددة على مدى أربعة عقود، خلّفت عشرات الآلاف من الضحايا والمهجرين. وفي منعطف تاريخي عام 2025، أعلن الحزب حل نفسه والتخلي عن السلاح، استجابةً لدعوة أوجلان من سجنه، ما فتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تُعيد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة.
2. الوضع الراهن: بين الانفراج والاحتلال المستمر
أدى حل الحزب إلى تغييرات ملموسة في المناطق الكردية داخل تركيا وخارجها:
- في جنوب شرق تركيا: انخفضت حدة العنف، لكن الجيش التركي يحتفظ بوجود مكثف قرب الحدود مع العراق وسوريا، مدعياً ضرورة “مكافحة بقايا الإرهاب”.
- في شمال العراق: سمح انسحاب مقاتلي الحزب بعودة آلاف النازحين إلى قراهم بعد سنوات من التهجير.
- في سوريا: لا يزال الوضع معقداً، حيث تواصل تركيا عملياتها العسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، رغم تراجع التهديد الأمني المباشر من الحزب المنحل.
هذا الواقع يطرح تساؤلات حول شرعية الوجود التركي في المناطق الكردية، خاصة بعد زوال المبرر الأمني الرئيسي الذي كانت أنقرة تستند إليه.
3. المطالب الشعبية: من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي
شهدت المطالب الكردية تحولاً جوهرياً بعد حل الحزب، حيث اتجهت نحو:
- المطالبة بحقوق ثقافية وسياسية في تركيا، مثل الاعتراف الرسمي باللغة الكردية وتمثيل عادل في البرلمان.
- إعادة إعمار المناطق المتضررة في العراق وضمان عودة آمنة للنازحين.
- تثبيت الحكم الذاتي للأكراد في سوريا ورفض الوجود العسكري التركي على أراضيهم.
ورغم بقاء بعض الأصوات الداعية للمقاومة المسلحة، فإن الغالبية تؤيد الحلول السلمية، مع تركيز واضح على إنهاء الاحتلال التركي كشرط لتحقيق الاستقرار الدائم.
4. ردود الفعل السياسية: بين الترحيب والتشكيك
- في تركيا: رحبت الحكومة بالحل مشترطةً نزع السلاح بالكامل، بينما دعا حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) إلى تسوية سياسية شاملة.
- عالمياً: أيدت الولايات المتحدة وروسيا القرار بحذر، بينما التزمت سوريا الصمت.
- في العراق: رأى إقليم كردستان فرصةً لتحسين العلاقات مع أنقرة، لكن بغداد ما زالت ترفض الوجود العسكري التركي على أراضيها.
أما المطالبة بانسحاب القوات التركية، فتواجه معارضةً شديدة من أنقرة، رغم دعمها الواسع من الأحزاب الكردية والمنظمات الحقوقية.
5. التداعيات الإقليمية: إعادة رسم التحالفات
- العراق: قد يؤدي انسحاب الحزب إلى تعاون اقتصادي أكبر مع تركيا، لكن ملف الوجود العسكري يبقى عائقاً.
- سوريا: قد تفتح التطورات باب التفاوض بين دمشق وقسد، مما يهدد النفوذ الأمريكي.
- الدور الدولي: قد تستغل روسيا الفرصة لتعزيز نفوذها، بينما تواجه واشنطن تحدياً في الحفاظ على تحالفاتها.
كل هذه العوامل تزيد الضغوط على تركيا لإعادة تقييم وجودها العسكري، خاصة بعد زوال المبررات الأمنية التقليدية.
6. المستقبل: سلام أم تصعيد؟
يتوقف المسار القادم على عاملين رئيسيين:
- التسوية السياسية: وتتطلب اعترافاً تركياً بحقوق الأكراد، وإعادة دمج المقاتلين السابقين، وانسحاباً تدريجياً للقوات التركية.
- التصعيد العسكري: قد يحدث إذا فشلت المفاوضات أو أصرت تركيا على البقاء عسكرياً في سوريا والعراق.
العوامل الحاسمة ستكون مرونة الأطراف ومدى ضغط المجتمع الدولي لدفع عملية السلام.
أنقرة بلا أعذار.. تركيا تواصل التوغّل والعدوان على العراق رغم زوال الذرائع
رغم إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه والتخلي عن العمل المسلح، في مشهد علني حضرته شخصيات سياسية بارزة خلال مراسم إحراق السلاح في السليمانية، تستمر تركيا في توغلها العسكري داخل الأراضي العراقية، متجاوزة كافة الأعراف الدولية، ورافضة أي مسار سلمي ينهي النزاع المزمن حيث تستمر في هجماتها ضد المدن العراقية.
وكان الوجود العسكري التركي في شمال العراق يبرر سابقًا بمواجهة “الخطر الكردي المسلح”، غير أن إعلان حزب العمال الكردستاني التخلي رسميًا عن الكفاح المسلح وإحراق سلاحه أنهى هذه الذريعة. مع ذلك، تواصل أنقرة شن هجمات جوية ومدفعية على قرى وجبال محافظتي دهوك وبنچوين، متسببة بخسائر بشرية ومادية، وآخرها كان قصفًا طال منطقة پێنجوێن، أُدين محليًا على أنه يعكس “ذهنية عنصرية متجذرة” في النظام التركي، بحسب حركة حرية أوجلان.
خرق لمبادرة السلام
حيث اتهمت حركة حرية أوجلان، السلطات التركية بتعمد مواصلة القصف على منطقة پێنجوێن في إقليم كردستان، معتبرة ذلك انعكاسًا لذهنية عنصرية متجذرة في النظام التركي، وسعيًا لإقصاء الكرد ومنع أي مسار سياسي سلمي.
وقال عضو الحركة حكيم عبد الكريم، في تصريح لـه، إن ” أنقرة تدار من قبل “تجار حروب” يعادون التعايش ويعرقلون فرص السلام، مشددًا على أن الاعترافات التي أدلى بها الرئيس التركي أردوغان بشأن الانقلاب والدستور واضطهاد الكرد تكشف حجم الأزمة البنيوية في تركيا.
وأكد عبد الكريم أن خطاب الشراكة بين المكونات الذي يروّج له أردوغان لا يعكس نواياه الحقيقية، بل يستهدف تعظيم الهيمنة التركية، محذرًا من أن أي تصعيد جديد ضد حزب العمال الكردستاني سيزيد التوتر، داعيًا في الوقت نفسه إلى التمسك بالحل السلمي كخيار استراتيجي.
ومن جانبه يقول المحلل السياسي سعيد البدري إن “استمرار القصف التركي بعد مبادرة السلام يضع العملية السياسية برمتها في مهب الريح”. ويضيف ان “تركيا لا تبدو جادة في احترام المبادرات، وعلى العكس، صعّدت عملياتها العسكرية بعد أن التزم الحزب بخطوة تاريخية، مما يكشف عن أن الهدف التركي يتجاوز مواجهة حزب العمال الكردستاني، ويطال السيادة العراقية”.
كما شدد البدري على ضرورة “انسحاب تركيا فورًا وتقديم ضمانات بعدم استهداف أي عناصر سياسية انخرطت في العمل السلمي”.
أطماع ما بعد الحرب
من جانبه، يؤكد المحلل راجي نصير أن “سقوط مبررات الوجود العسكري التركي يُوجب على أنقرة أن تبدأ فورًا بسحب قواتها”. لكنه يرى أن “المسألة تتعدى المسلحين، فأنقرة تمارس الآن ابتزازًا مزدوجًا بالنفط والماء، مستهدفة سيادة العراق وموارده”.
كما نبّه إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا ينظر لحزب العمال كجهة مسلحة فقط، بل كخصم سياسي قد يهدد توازناته الداخلية والخارجية، لذلك لا يريد أي تسوية شاملة، بل يسعى، حسب مراقبين، لتوسيع نفوذه باتجاه كركوك ونينوى.
المحلل السياسي عبد الله شلش عبّر عن خيبة أمله من الرد العراقي، قائلاً انه “لم تعد هناك أي حجة تُبرر وجود القوات التركية في شمال العراق، وعلى الحكومة أن تتحرك لطردها فورًا وتفعيل أوراق الضغط، فالصمت بات تواطؤًا ضمنيًا”.
شلش اعتبر أن “الضعف العسكري والدبلوماسي العراقي يُغري أنقرة بالمزيد من التمدد”، مؤكدًا أن المبادرة الكردية كانت فرصة ذهبية لإنهاء النزاع، لكن تركيا لم تلتقطها.
7. الخاتمة: نحو مستقبل عادل
بعد حل الحزب، أصبح المطلب الكردي واضحاً: حقوق سياسية وثقافية عبر الوسائل السلمية، وإنهاء الاحتلال التركي. هذه المطالب تكتسب زخماً دولياً، خاصة بعد اختفاء الذريعة الأمنية لوجود أنقرة العسكري. لكن تحقيقها يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، ودعم دولي فاعل، وحوار جاد يضع مصالح الشعوب فوق الحسابات الضيقة. التاريخ يعلمنا أن العسكرة لا تحقق إلا الدمار، أما السلام فيحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالآخر وعدالة التوزيع.