على مدى عقود، نسجت الحركة الصهيونية وحلفاؤها رواياتٍ معقدةً لتبرير وجودها ومشاريعها التوسعية في قلب غرب آسيا، مُتسترةً أحياناً بلغة السلام، ومُعلنةً عدائها أحياناً أخرى. لكن وراء هذا الكلام المتعدد الأوجه، يظل الهدف الاستراتيجي الثابت جلياً: تفتيت المنطقة، إضعاف دولها وقواها الفاعلة، وفرض هيمنة كاملة تُرسخ الكيان الصهيوني كقطب إقليمي لا يُضاهى.
اليوم، وبعد أكثر من ستة أشهر على انسحاب القوات الإيرانية الاستشارية من سورية – الذي كان يُستخدم ذريعةً رئيسيةً للعدوان المتكرر – تُكشف حقيقة هذا المشروع على أرض الواقع. فبدلاً من التوقف، تتكثف الضربات الإسرائيلية ضد الأراضي السورية، مؤكدةً أن الذرائع كانت غطاءً لخطةٍ أوسع: إعادة هندسة الخارطة الجيوسياسية لغرب آسيا وفقاً لرؤية “إسرائيل الكبرى” الاقتصادية والأمنية.
هذا المقال يغوص في جذور هذه الإستراتيجية، بدءاً من حرب الهوية المتجسدة في فرض مصطلح “الشرق الأوسط” الاستعماري بديلاً عن “غرب آسيا”، مروراً بالأطماع الصهيونية المعلنة في السيطرة على موارد المنطقة وممراتها، وصولاً إلى الآليات المزدوجة للاختراق والتطبيع من جهة، والتفتيت والحرب بالوكالة من جهة أخرى. وهو يؤكد، من خلال قراءة متأنية للأحداث وخاصةً في سورية، أن وهم الروايات الصهيونية يتهاوى يوماً بعد يوم، بينما تستعص إرادة المقاومة وأرضها على الكسر.
على الرغم من اتباع الصهاينة اساليب ممنهجة ومتنوعة وسردهم روايات تخدم مشاريعهم في غرب آسيا، إلا أن خططهم هذه تتكشف بوضوح للقاصي والداني يوما تلو الآخر، وتؤكد على هدفهم الاستراتيجي الثابت بتفتيت المنطقة والهيمنة عليها وإضعاف أي قوة قد تعرقل مشروعهم الإقليمي الممتد.
على مدار عقود، شكل الوجود الصهيوني في قلب المنطقة العربية والاسلامية تهديدا دائما للاستقرار والسيادة الإقليمية واليوم، بعد أكثر من ستة أشهر على عدم تواجد بعض القوى الإقليمية في سورية، وعلى رأسها إيران، يكثف الكيان الصهيوني هجماته الجوية ضد سورية في إطار خطة أوسع لإعادة تشكيل موازين القوى في غرب آسيا (الشرق الأوسط).
ما ورءا تسمية غرب آسيا بـ”الشرق الاوسط”
نتعمد هنا استخدام مصطلح غرب آسيا، لتسليط الضوء على ظاهرة جسيمة وخاطئة في استخدام تسمية “الشرق الاوسط”، لأن تسويق هذه التسمية لم يكن بغرض تعريف المنطقة تعريفا جغرافيا وصفيا صوريا؛ وإنما لصياغة تعريف سياسي ثقافي جديد للمنطقة، مختلف تماما عما قصدته التسمية الجغرافية التقليدية لغرب آسيا.
وعليه، فإن استعمال المصطلح أساسا يدخل في صميم حرب الهوية؛ لأنه جاء بديلا عن استخدام المنطقة العربية والإسلامية أي اعادة التقسيم الجغرافي للعالم حسب متطلبات الاستراتيجية الغربية الاستعمارية. وهكذا فالمصطلح يعكس مبدأ ثقافيا فضلا عن بعده السياسي أو الاقتصادي أو العسكري.
ولكي نتعمق في فهم استراتيجية الغرب والصهاينة ف غرب آسيا، لا بد من الاشارة الى ان منطقة غرب آسيا تشكل دوما حيزا استراتيجيا، حيث تحتل مكانة استراتيجية في النظام العالمي وحيث يخيل لك ان ليس هناك بقعة في العالم تعادل نفس اهمية هذه المنطقة.
وذلك لان هذه المنطقة الواقعة في قلب العالم وتحتوي على موارد غنية من أهمها مصادر الطاقة مثل: النفط، والغاز الطبيعي، وغيرها من الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى أهميتها الحضارية والدينية والاستراتيجية، فكانت محط أنظار القوى التي تحكم العالم عبر التاريخ والعصور.
ومع ظهور النظام العالمي الجديد 1990، وما لحقه من توابع أحادية القطبية، ازدادت اهمية غرب آسيا، و برز الوضع الجيوسياسي او الجيوبولتيكي لمنطقة غرب آسيا، حيث ان التسمية الجديدة لها بفهوم “الشرق الاوسط” يترسخ، ولا سيما من خلال تشكيل شركات نفط كبيرة في المنطقة، ووضع تعزيز وحماية الأنظمة السياسية.
ومن هنا يعد مصطلح “الشرق الاوسط”، الذي شاع استخدامه على كل الالسنة في اجزاء العالم المختلفة، مفهوما متحركا غير مستقر بالمعنى التاريخي، حيث ان الصياغات السياسية والجغرافية لهذا المفهوم قد تغيرت و لم يكن مفهوم “الشرق الاوسط ” يشير في الواقع الى حيز جغرافي معين ولا تاريخ مشترك لشعوب منطقة معينة، بل ارتبط الى نظرة السياسات الاستعمارية.
كما ان هذا المصطلح ليس مجرد ابتكار لمنظّري قاموس السياسة الدولية وانما هو هلامي القوام بمعنى انه يمكن ان يتسع او يضيق على خريطة العالم وفقا لمصالح واهداف وسياسات الدول الاستعمارية او حسب التصنيف التي تتخذه هيئة خاصة أو دولية أو وزارة من وزارات الخارجية في العالم.
الصهيونية وفكرة مشروع “الشرق الاوسط”
ظهرت فكرة مشروع الشرق الأوسط الجديد في كتاب رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الاسبق شمعون بيريز وكذلك بنيامين نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس، عند قراءة كتاب شمعون؛ فقد تنخدع وللوهلة الأولى بموضوعية بيريز وهو يتحدث عن فشل الحرب وأهمية السلام، ولكن سرعان ما ستكتشف أن هذا السياسي الـمُخضرَم إنما يدُس السمّ في العسل، وأن دعوته الظاهرية للسلام لا تُخفي استراتيجية ما يسمى بإسرائيل التوسّعية، وهي قناعة تقوم على ضرورة استمرار هيمنة الاحتلال الإسرائيلي على الـمنطقة.
وعليه، فالمشروع لم يكن لإعادة الخريطة السياسية فحسب وإنما لرسم الخريطة الاقتصادية مما يؤدي إلي وضع ترتيبات إقليمية جديدة وبخصوص قضايا مختلفة منها قضية التعاون الاقتصادي بين تكتل يضم “دول الشرق الأوسط والكيان الإسرائيلي”.
مشاريع الكيان الصهيوني في غرب آسيا
ولأنه كيان لقيط، تم تشكيله على وقع الابادة الجماعية و المجازر وسفك دماء شعوب المنطقة وتهجيرهم وسرقة اراضيهم عنوة واحتلالها، يسعى قادته وداعموه دوما لمنع تشكل أي محور مقاومة فعال في المنطقة والقضاء على أي بنية عسكرية أو سياسية قادرة على تشكيل تهديد لوجوده.
و لذلك، ولان سورية هي الدولة العربية التي تحارب المشروع الصهيو-امريكي في المنطقة، تُستهدف باستمرار لإضعافها عسكريا وبحثيا ومنع إعادة بناء قدراتها الدفاعية، كما ان لبنان يُواجه ضغوطا عسكرية وسياسية واغتيالات يومية بسبب وجود المقاومة فيه.
وهنا، يعمل المشروع الصهيو-امريكي على مسارين؛ اما اخضاع وترويض انظمة الدول المجاورة (مصر، الاردن على سبيل المثال) والمتحالفة والمطبعة مع الكيان الاسرائيلي ودفعها للمساهمة في دمج هذا الكيان في نسيج المنطقة. علاوة على ذلك، يسعى الكيان الصهيوني ايضا في هذا المسار الى تعميق تمدده الاستخباراتي داخل العمق العربي عبر بناء شبكات تجسس وتحالفات سرية مع جهات محلية في عدة دول عربية، الى جانب تنفيذ عمليات سايبرية هجومية تستهدف البنية التحتية الحيوية (كهرباء، مطارات، بنوك).
وفي المسار الثاني، يعمل المشروع الصهيو-امريكي على تفتيت الدول المجاورة الاخرى والممناعة والمقاومة لهذا المشروع (العراق، سورية، لبنان، اليمن، على سبيل المثال) الى دويلات او كيانات طائفية وإثنية ضعيفة. وايضا يسعى لإعادة رسم الخارطة الأمنية في المنطقة عبر استثمار الفراغ الناتج عن عدم تواجد ايران في سورية، والتي كانت متواجدة بصفة استشارية وبناء لطلب الحكومة السورية آنذاك.
زد على ذلك، فان الكيان الصهيوني يسعى لتوسيع نفوذه الاقتصادي عبر تحقيق ما يسمى مشروع “إسرائيل الكبرى الاقتصادية”، وذلك عبر سيطرته على مشاريع الطاقة الإقليمية (مثل مشروع “خط الغاز من البحر المتوسط إلى أوروبا”)، والممرات التجارية الجديدة (الهند/ايران/ الإمارات/ السعودية/ فلسطين المحتلة / أوروبا) كمنافس لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
وايضا، يعمل الساسة الصهاينة وفقا لمبدأ تأمين الداخل بخلق الحروب على حدود الآخرين (سورية، لبنان، ايران، اليمن، العراق)، سعيا منه لاستنزاف محور المقاومة، المعادي لمشروعه، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، دون خوض حرب شاملة.
الكيان الصهيوني يستمر في قصف سورية على الرغم من عدم تواجد ايران فيها
واثناء تولي بشار الاسد الحكم في سورية وطلبه مساعدة ايران استشاريا آنذاك، تعرضت سورية لعدة اعتداءات صهيونية، وكانت ذريعة الكيان الصهيوني حينها، انه يهاجم سورية بسبب تواجد المستشارين الايرانيين على الاراضي السورية.
الا انه وبعد مرور أكثر من ستة أشهر على عدم تواجد بعض القوى الإقليمية في سورية، وعلى رأسها إيران، يكثف الكيان الصهيوني هجماته الجوية ضد سورية في إطار خطة أوسع لإعادة تشكيل موازين القوى في غرب آسيا (الشرق الأوسط).
وبعد ما تم توضيحه وتوثيقه اعلاه في هذه المقالة، عن المشروع الصهيو-امريكي في منطقة غرب آسيا، نؤكد على الرغم من اتباع الصهاينة اساليب ممنهجة ومتنوعة وسردهم روايات تخدم مشاريعهم في غرب آسيا، الا ان خططهم هذه تتكشف بوضوح للقاصي والداني يوما تلو الاخر، وتؤكد على هدفهم الاستراتيجي الثابت بتفتيت المنطقة والهيمنة عليها واضعاف اي قوة قد تعرقل مشروعهم الاقليمي الممتد.
وهنا تجدر الاشارة الى ان الجمهورية الاسلامية الايرانية، تُعتبر العدو الأكبر للصهيونية ومشروعها في المنطقة بسبب دعمها لحركات المقاومة ورفضها التطبيع الذي يتستر به الصهاينة كغطاء للهيمنة من خلال الاتفاق الابراهيمي لكسرعزلته السياسية واستغلال اسواق غرب اسيا أمنيا واقتصاديا، وتحقيق مركزا إقليميا له على الصعيد التكنولوجي والأمني والطاقة.
لكن هذا المشروع، رغم تغطيته بالدعم الأمريكي والغربي، يواجه تحديات حقيقية وجذرية منها الرفض الشعبي الواسع للتطبيع، صعود محور إقليمي مقاوم وشرس يعيد التوازن في المنطقة، هشاشة داخلية للكيان الصهيوني ظهرت جليا في حرب غزة الأخيرة.
وخلاصة القول ان ما يحدث في سورية اليوم ليس معزولا، بل جزء من هندسة إقليمية صهيونية تسعى لإعادة تشكيل المنطقة على مقاس ما يسمى بـ”إسرائيل الكبرى” سياسيا واقتصاديا، ووفقا للتاريخ والاحداث، فان الأرض التي أنجبت المقاومة ستبقى عصية على الكسر والرضوخ.