في مشهد يُجسّد أبشع جرائم العصر، تتحوّل أمعاء الأطفال الرُضّع في غزة إلى ساحات معركة جديدة للاحتلال الإسرائيلي، الذي حوّل الحصار إلى سلاح إبادة جماعية. المجاعة لم تعد ادعاءً، بل واقعًا ملموسًا يوثّقه عشرات الجثامين الصغيرة التي تتهاوى يوميًا تحت وطأة الجوع، بينما العالم يتفرّج.
لا رضاعة طبيعية.. ولا حليب صناعي: طفل غزة بين المطرقة الإسرائيلية وسندان الصمت الدولي
“محمد”، أبٌ فلسطيني شاب، يحمل طفله الهزيل بين ذراعيه، محاولًا إسكات صراخه الجائع بحليبٍ لم يجده إلا بثمنٍ يُضاهي راتبه الشهري. “اشتريت علبة حليب منتهية الصلاحية بمئة دولار.. انتهت خلال أيام، والآن طفلي يموت أمامي”، يقول محمد بصوتٍ مكسور. طفله، مثل آلاف الأطفال في غزة، يعاني من الهزال وسوء التغذية الحاد، بعد أن حُرِمَ من أبسط حقوقه: الغذاء.
التقارير الطبية تُحذّر: 69 طفلًا ماتوا جوعًا حتى الآن، بينما يُدخل 112 طفلًا يوميًا إلى المستشفيات بسبب سوء التغذية. الأمهات المُنهكات، اللواتي يعانين من فقر الدم ونقص الغذاء، غير قادرات على إرضاع أطفالهن، بينما اختفى حليب الأطفال من الأسواق، أو أصبح سلعةً تُباع في السوق السوداء بأسعار خيالية.
أرقام مرعبة: 70% من أطفال غزة على حافة الموت
- 620 شهيدًا سقطوا بسبب الجوع ونقص الدواء، بينهم 70 ماتوا جوعًا منذ يونيو الماضي.
- 650 ألف طفل يواجهون خطر الموت جوعًا، وفقًا للأمم المتحدة.
- 60 ألف حامل مُهدّدة بمضاعفات قاتلة بسبب انعدام الغذاء والرعاية الصحية.
منظمة الصحة العالمية تكشف أن 100 ألف طفل وحامل في غزة يعيشون في مراحل “حرجة” من سوء التغذية، بينما تحذّر “أونروا” من أن 80% من ضحايا المجاعة أطفال.
الأطباء أيضًا يموتون جوعًا: “أجريت عمليتين ولم آكل منذ يومين”
في مستشفى ناصر بخان يونس، يُغمى على الطبيب “خالد السر” أثناء إجرائه عملية جراحية، ليس بسبب الإرهاق، بل لأنّه لم يتناول الطعام منذ يومين. “بطني تؤلمني.. لا أستطيع الوقوف”، يقول الطبيب الذي تحوّل من مُنقذ إلى ضحية.
المستشفيات، التي دُمّرت معظمها بقصف الاحتلال، لم تعد قادرة حتى على تأمين وجبة أرزٍ للأطباء. في مجمع ناصر الطبي، يتوقف جرّاح عن إنقاذ طفلة مصابة برصاصة بعد أن انهار من الجوع، ليكتشف أنها أيضًا تعاني من سوء التغذية.
التجويع كسلاح إبادة: اعترافات إسرائيلية وتواطؤ دولي
لم يعد هناك مجال للشك: إسرائيل تستخدم التجويع كجزء من استراتيجية إبادة جماعية ممنهجة. وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت صرّح في 9 أكتوبر 2023: “نفرض حصارًا كاملاً.. لا طعام، لا ماء، لا كهرباء.. نحن نقاتل حيوانات بشرية”.
القانون الدولي يُصنّف هذه الجرائم على أنها:
- جريمة حرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي.
- إبادة جماعية وفق المادة الثانية من اتفاقية 1948.
- انتهاك صارخ لاتفاقية جنيف الرابعة (المادتان 55 و56).
منع المساعدات وقتل الجياع: مجازر “نقاط التوزيع”
تحوّلت نقاط توزيع الغذاء إلى ساحات مجازر:
- 1021 شهيدًا و6511 جريحًا بين مدنيين قُتلوا أثناء انتظارهم لقمة خبز.
- 57 مركزًا لتوزيع المساعدات تعرّض للقصف.
- 121 هجومًا على قوافل إغاثة.
إسرائيل تمنع حتى الأعلاف الحيوانية من الدخول، بينما تُجبر الأطفال على أكل أوراق الأشجار.
غزة تحت المجهر: معايير “المجاعة” تحققت منذ أشهر
وفق تصنيف IPC الأممي:
- 93% من السكان (1.95 مليون نسمة) في مرحلة “أزمة غذاء حادة”.
- 22% (495 ألفًا) في مرحلة “مجاعة فعلية”.
- 54% (1 مليون) في مرحلة “طوارئ غذائية”.
“التجويع كسلاح إبادة: كيف حوّلت إسرائيل غزة إلى ساحة لمجاعة ممنهجة؟
في حربها الأخيرة على غزة، لم تكتفِ “إسرائيل” بقصف المنازل والمستشفيات، بل حوّلت الحصار والتجويع إلى سلاح ممنهج لتحقيق أهداف سياسية وعقابية، مستهدفةً الأطفال والنساء والشيوخ بعيدًا عن ضجيج الرصاص. هذا التقرير يكشف آليات هندسة المجاعة، وتداعياتها الإنسانية والأخلاقية، وكيف دقّ جيش الاحتلال “آخر مسمار في نعش الإنسانية”.
1. سياسة التجويع: من قطع الإمدادات إلى تعقيد المساعدات
- الحصار الشامل: منذ اليوم الأول للحرب، فرض جيش الاحتلال حصارًا كاملاً على غزة، قطع فيه الكهرباء والماء والوقود والدواء، متوعدًا بفتح “أبواب جهنم”، في إشارة إلى إستراتيجية العقاب الجماعي.
- عرقلة المساعدات: بعد ضغوط دولية، سمح بدخول شاحنات محدودة، لكنه فرض إجراءات تعجيزية مثل: التفتيش المطول، رفض مواد أساسية (كالبطاريات والأدوية الجراحية)، وتأخير الشحنات لأيام. كما استهدف نشطاء توزيع الغذاء بقصف متعمد.
- تفكيك دور “الأونروا”: سعى الاحتلال إلى تقويض وكالة غوث اللاجئين (التي تُعتبر شاهدًا على النكبة)، واستبدالها بمنظمات أقل فاعلية مثل “برنامج الغذاء العالمي”، محاولةً لطمس الحقوق السياسية للفلسطينيين.
2. هندسة المجاعة: أهداف سياسية و”عقاب جماعي”
- كسر إرادة المقاومة: حسب وثائق مسربة، خطط الاحتلال لاستخدام الجوع كأداة لضغظ المدنيين، لإجهادهم على الثورة ضد حماس أو الهجرة القسرية.
- التغطية الدعائية: روّجت آلة الدعاية الإسرائيلية أن غزة “لديها مخزون غذائي”، بينما أظهرت صور الأطفال الهزيلين مثل “ياسين” (6 سنوات) الذي مات جوعًا في مستشفى الشاطئ، زيف هذه الادعاءات.
- صناعة “أزمات موازية”: بإنشاء “مراكز توزيع” غير آمنة (كالهجوم على مخيم النصيرات)، أو الترويج لمشاريع وهمية مثل “الميناء الأمريكي” الذي لم يُنفذ.
3. تداعيات المجاعة: من المأساة الإنسانية إلى الانهيار الأخلاقي
- أرقام صادمة: حسب الأمم المتحدة، 90% من سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي، و30% في مرحلة “المجاعة الكاملة”.
- انهيار القيم الإنسانية: موت الأطفال جوعًا (كحالة التوأم محمد ونور في رفح) كشف زيف الادعاءات الإسرائيلية بـ”الحرب العادلة”، حتى أن مسؤولين سابقين في الموساد حذروا من تداعيات هذه الصورة على شرعية الكيان.
- مقاومة تتحدى الجوع: رغم المحنة، ظهرت قصص صلابة كالحاج عبد العزيز الجمل (70 عامًا) الذي رفض الاستسلام وقال: “من مات ولم يُحدّث نفسه بالغزو فقد مات على الجاهلية”.
4. هل نجحت إسرائيل؟ انعكاسات الاستراتيجية الفاشلة
- فشل في كسر المقاومة: لم يُنتج التجويع استسلامًا جماعيًا، بل عزز التماسك الاجتماعي، كما أن عمليات المقاومة استمرت رغم الحصار.
- خسارة المعركة الدعائية: صور الهزّالين حوّلت الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، حتى داخل حلفائها. وصل الأمر إلى تهديدات بوقف الدعم العسكري من دول أوروبية.
- إدانة قانونية دولية: اتّهامات “استخدام الجوع كسلاح حرب” قد تُدخل قيادات إسرائيلية في نطاق محكمة الجنايات الدولية، خاصة بعد تقارير الأمم المتحدة التي وصفت الوضع بـ”الإبادة”.
خاتمة: المجاعة كجريمة لا تُغتفر والصمت الدولي شريك في الجريمة
بعد 9 أشهر من الحرب، لم يعد التجويع في غزة “أثرًا جانبيًا”، بل جريمة مكتملة الأركان تُضاف إلى سجل الكيان المحتل. لكن التاريخ يُسجّل أيضًا أن هذه السياسة لم تُضعف إلا شرعية من نفّذها، بينما أثبت الشعب الفلسطيني أن القهر لا يقتل الإرادة، حتى لو بقي الجسد هزيلًا. السؤال الآن: كم طفلاً آخر يجب أن يموت جوعًا قبل أن يتحرك الضمير العالمي؟
العالم يرى أطفال غزة يموتون جوعًا، ويسمع اعترافات قادة الاحتلال، لكنه يكتفي بـ”القلق” و”الإدانة”. في غزة، لم يعد الموت خيارًا، بل حتمية تنتظر الجميع: الرضيع الذي يبكي حتى يغمى عليه من الجوع، والطبيب الذي ينهار أثناء إنقاذ مريض، والأب الذي يدفن طفله في قبرٍ بلا كفن.
السؤال الذي يُلاحق الضمير العالمي: كم طفلًا آخر يجب أن يموت حتى تتحرّك البشرية؟