عمليًا، فشلت المحاولتان الأميركيتان المشتركتان مع بريطانيا ودول أخرى لوضع حدّ للتدخل البحري اليمني مساندة لقطاع غزّة: أولًا عبر تشكيل ما أطلق عليه “حارس الازدهار” لحماية السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانىء كيان العدوّ عبر مضيق باب المندب إلى البحر الأحمر، وقبلهما خليج عدن والبحر العربي؛ وثانيًا إطلاق برنامج غارات عسكرية بالطيران الحربي وصواريخ “توما هوك” و”كروز” ضدّ أهداف “حوثية” كما تقول البيانات العسكرية الأميركية المتتالية.
بقلم ✍️ عبد الحسين شبيب
تلخص بعض هذه البيانات الرسمية الأميركية والبريطانية عمق المأزق الذي تورطت فيه واشنطن ولندن. المتحدث باسم البنتاغون يقول: “إذا واصل الحوثيون هجماتهم على السفن في البحر الأحمر فسنواصل ضرب مواقعهم لإضعاف قدراتهم”. ويضيف الجنرال الأميركي بات رايدر، في مؤتمر صحفي مساء الاثنين (6/2)، إن: “لدى الحوثيين قوات لا محدودة وينبغي عدم التفاجؤ إذا استمرت عملياتهم بالرغم من الضربات الأميركية”، ومعها البربطانية والدول الأخرى المشاركة.
وملخص لحصيلة ما نُفذ من عدوان أميركي – بريطاني حتّى الآن يستنتح وزير الحرب الأميركي السابق بالوكالة كريس ميلر أن: “القتال مع الحوثيين يشبه القتال في الضباب، وأن الكثير من الطائرات من دون طيار الرخيصة تسبب الكثير من الأضرار وتكلّف ملايين الدولارات ثمن الصواريخ التي تطلق لإسقاطها”.
باختصار هناك عدة مشكلات جوهرية لما يقوم به ثنائي واشنطن – لندن ضدّ صنعاء عسكريا” ظهر حتّى الآن:
١ – الكلفة المالية العالية لثمن الصواريخ التي تطلقها البوارج الأميركية والطائرات الحربية البريطانية والمقدرة بعشرات ملايين الدولارات حتّى الآن. عدم التناسب المخزي بين طائرة يمنية مسيّرة في أحسن الأحوال لا يتجاوز سعرها الألفي دولار وربما يصل إلى مئتي دولار، وبين صاروخ أميركي واحد – إذا لم يخطئها – ببضعة ملايين من الدولارات.
٢ – الحاجة المستمرّة إلى تزويد السفن الحربية الأميركية والبريطانية بهذه الصواريخ تحتاج إلى خط امداد لوجستي مكلف وينطوي على مخاطر من استهداف السفن التي يتعين عليها أن تحافظ على ملاءة مخازن البوارج والقطع الحربية الأميركية والبريطانية، حيث إن كثافة الإطلاق اليمني توسعت لتشمل إلى السفن الإسرائيلية وتلك المتجهة إلى موانىء العدو، السفن الأميركية والبريطانية سواء كانت حربية أم تجارية بعد بدء العدوان من هذين الطرفين بشكل أساسي على اليمن. وبالتالي تشعر بحرية هذين البلدين بأنهما على أعتاب الاستدراج إلى كمين استنزاف لقدراتهما سيؤثر حتمًا على مجمل الصورة المأسطرة عن هيبة وقوة ذلك السلاح الاستراتيجي الذي تحتكره بضعة دول غربية.
٣ – انكشفت البحرية البريطانية على نقطة ضعف خطيرة جدًا نُشرت بعض تفاصيلها وتتعلق بعدم جهوزية بعض أفضل بوارجها الحربية لخوض اشتباك بحري – أرضي وعدم قدرتها على إطلاق صواريخ بحر – أرض على أهداف في اليابسة اليمنية، وتبين أن ما هو موجود في المنطقة وخارج المياه الإنكليزية هي قطع بحرية مهيئة فقط للقتال البحري البحري؛ وهذا ليس تفصيلاً في محاولة إعادة بناء معادلات القوّة في المياه الدولية حيث تريد تلك الدول الاستعمارية أن تفرض نفوذها وهيمنتها بقوة سلاح البحرية.
٤ – يبدو معيبًا بالمعنى الاستراتيجي العسكري أن تعلن واشنطن أن ثلاثًا من أفضل حاملات طائراتها تشارك في عمليات الاستهداف على الأراضي اليمنية وهي “يو، اس. اس ايزنهاور وكارني وجرافلي” على التوالي. ماذا تفعل هذه الحاملات الضخمة؟ تقول البيانات الرسمية الصادرة عن البنتاغون أو القيادة المركزية الأميركية أو قيادة البحرية إنها قصفت صاروخًا هنا أو صاروخين هناك أو أربعة صواريخ هنالك، أي في بعض المحافظات اليمنية التي تُستهدف، وتقول الرواية الأميركية إن هذه الصواريخ أو الطائرات المسيّرة اليمنية كانت جاهزة للإطلاق على أهداف بحرية لذلك دُمرت وعُطّلت هذه العملية. وتضيف بعض البيانات أهدافًا جرى قصفها مثل مخازن صواريخ ومخازن طائرات مسيّرة يمنية في عدة مناطق.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن كلّ هذا المجهود الحربي الأميركي البريطاني يتركز فقط على بضعة صواريخ ومسيّرات رُصدت ودُمرت قبل انطلاقها، ما يعني انعدام التناسب بتاتًا بين حجم النيران المسقطة على اليمن وبين طبيعة الأهداف والحصيلة النهائية.
في الحصيلة النهائية يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
١ – لم تتراجع إرادة اليمنيين وحافزيّتهم للاستمرار في مساندة جبهة غزّة والسعي لوقف الحرب على الفلسطينيين في القطاع ورفع الحصار عنهم وإيصال الغذاء والدواء لهم. لم يُرصد أي مؤشر رهبة – بتهكّم- أصابت اليمنيين، بل على العكس زادتهم تلك الغارات رغبة وحماسًا للاستمرار مهما كان الثمن. بعض المؤشرات بالأرقام تعكس هذا الاستنتاج: التظاهرات المليونية الأسبوعية في أكبر عدد ممكن من مديريات المحافظات المحررة ومراكزها، الإطلالات الأسبوعية لقائد اليمن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، أكثر من 135 ألفًا جرى تدريبهم عسكريًا تحت عنوان المشاركة في دعم فلسطين وتحريرها منذ بدء العدوان على غزّة، وعشرات المناورات الحربية في مختلف المناطق العسكرية اليمنية التي تحاكي السيطرة على مواقع وتدمير أهداف عسكرية صهيونية. الإعلام الإسرائيلي نفسه يتابع باهتمام وقلق تلك المناورات التي تبث تباعًا عبر الإعلام اليمني والإعلام الصديق.
٢ – استمرار العمليات العسكرية اليمنية في البحرين الأحمر والعربي وأيضًا باتّجاه أم الرشراش (إيلات) ما يؤكد أن تلك الغارات الأميركية البريطانية لم تمس بالقدرة العسكرية اليمنية على مواصلة الواجب الإنسانيّ والاخلاقي والديني تجاه فلسطين. على العكس حافظت وتيرة العمليات على نسبتها التصاعدية ولم تسجل أي تراجع، بل سجلت اتساعًا في نوعية الأهداف لتشمل السفن الأميركية والبريطانية ومساحة الإطلاق، والأهم ملامسة خط الدفاع الأخير الذي اضطرت إحدى القطع الحربية الأميركية أن تستخدمه لإسقاط صاروخ كروز يمني وصل إلى مسافة أقل من ميل من هذه القطعة الحربية بعد أن تجاوز بمهارة خطوط الدفاع الأولى المحدّدة بثمانية أميال. يعني ذلك أن الكفاءة اليمنية في الإطلاق لم تتأثر – ولن تتأثر – بتاتًا. حتّى أن البيانات الأميركية عن تعدد المحافظات اليمنية التي تُستهدف تؤكد أن الجغرافيا تخدم اليمنيين بشكل كبير في إخفاء قدراتهم العسكرية ومخازنهم فضلًا عن توفيرها منصات إطلاق من أماكن كثيرة لا يمكن للأميركي ولا البريطاني أن يحصيها، لا باستطلاع جوي أو استعلام بشري أو بتقنيات الذكاء الصناعي. فضلًا عن أن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي قد لفت في أحد خطاباته إلى أن اليمنيين ليسوا طارئين على القنال ولديهم الخبرة في كيفية تخزين وحماية مخزونهم العسكري وأبعاده عن المخاطر وأنهم ليسوا لقمة سائغة كما يتخيل الأميركي والبريطاني وغيره. هذه نقطة قوة مهمّة لا يمكن تجاوزها بأي حال، وأكبر دليل ملموس على ذلك هو تجربة عدوان التحالف الأميركي السعودي الإماراتي الإسرائيلي على مدى ثماني سنوات ضدّ اليمن خرج بعدها أنصار الله أكثر قوة وأكثر خبرة وأكثر انتشارًا. يضاف إلى ما تقدم تلك الأحجية التي تتحدث عنها التقارير والتحليلات الغربية حول كيفية معرفة القوات المسلحة اليمنية بأهدافها وتتبعها وضربها من دون أن تخطّىء حتّى الآن في هوية أي هدف، وهذه عملية تحتاج إلى معلومات ورصد ودقة في التنفيذ.
ما هي الخلاصة الآن؟
لم تتمكّن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إعادة بناء معادلات ردع مع دولة غير مكتملة الأركان -بتوصيفهم- وما تزال تخضع لحصار اقتصادي ومالي مطبق، ولديها موارد محدودة حتّى عسكريًا، وذلك في أكثر المناطق البحرية حساسية وأهمية للتجارة العالمية وللمصالح الغربية، ليبدو وكأن واشنطن ولندن أخطأتا مرة جديدة في الحساب عندما اعتقدتا أنهما يمكنهما ليّ ذراع اليمنيين ووقف مساندتهم لغزّة ووقعتا في مستنقع يصعب الخروج منه من دون أضرار استراتيجية، ولعلّ أسرعها ليس فقط انكسار الهيبة وتراجع السمعة، بل إن التقنية الحربية البحرية التي تتكىء على كلمة “أساطيل بحرية” بكلّ ما تعنيه تلك الكلمة من سطوة وقدرة على الهيمنة والاستكبار، ليست قادرة على إقامة توازن ردع أو حتّى ردع لقوة بحرية يمنية ناشئة، فكيف ستتعامل مع قوى بحرية إقليمية لديها من الإمكانات والخبرات ومساحات الانتشار الكبيرة؟
لقد تبين أن هذه الأساطيل صالحة فقط للقتال البحري – البحري وليس لمواجهة عدو أمام أراضيه وسواحله ويكون لديه كفاءة وإرادة وحافزية للقتال والمواجهة والتصدي للهيمنية الأميركية. لقد صدّعت عمليات البحرين الأحمر والعربي هيبة القوّة العسكرية الأميركية ووضعتها أمام أسئلة محرجة في لحظات تاريخية حاسمة تواجه فيها الولايات المتحدة نشوء قوى عظمى دولية وإقليمية بعدما كانت تهوّل عليهم سابقًا بأساطيلها فأسقطت تجربة الاشتباك اليمني مع هذه الأساطيل تلك السطوة والهيبة، ويبنى على ذلك الكثير من النتائج في المستقبل القريب.