لم تعد واشنطن تملك الكثير لحفظ ما تبقى من هيمنة الماضي في منطقة هي أكثر سخونة وحيوية.
بقلم ✍إبراهيم العنسي
بعد كل عملية، أو فعل مهما صغر حجمه، تحتاج الكثير من مساحيق التجميل، بما فيه تضخيم الأحداث حتى وإن كانت أحداثاً شكلية بسيطة وسطحية الأثر، مع ذلك فإن هذا التأثير في تراجع واضح مع اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي الساحة الإعلامية العالمية.
في العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن منذ 11يناير تقفز العنجهية والغرور الأمريكي إلى واجه الحدث، دون اكتراث بحجم الهزال الذي بلغته هذه القوة العظمى بعد هيمنة طويلة.
مقال للكاتب الأمريكي من أصول اليهودي توماس فريدمان، رغم ما فيه من السفه والحماقة إلا أنه يكشف جزءاً من بواطن الشعور السياسي والدبلوماسي الأمريكي والغربي بتلاشي الهيمنة الأمريكية وضعف حضورها اليوم.
هذا المقال الذي يرتبط بأحداث المنطقة الأخيرة، يحاول القفز على واقع أمريكا، حيث تبدو أحداث المواجهات في إطار حرب غزة أدوات اختبار وقياس لحجم التأثير الأمريكي الخافت والضعف الممتد في نواحي شتى، خاصة فيما يتعلق بمواجهات البحر الأحمر واستنفار اليمن في الدفاع عن أهالي غزة، والضغط لوقف جرائم الإبادة الجماعية هناك، إلى جانب تأكيد السيادة البحرية على الجغرافية الحيوية للبحار اليمنية.
هناك صورة درامية لفت الانتباه إليها قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين- يحفظه الله- في كلمته عصر اليوم، الصورة الدرامية الجديدة تتحدث كيف أن سفن الولايات المتحدة الأمريكية تتوارى خلف أعلام “جزر مارشال” في البحر الأحمر، محاولة المرور في المياه اليمنية بعد أن توسعت أهداف اليمن لتطال السفن الأمريكية والبريطانية ، حيث الاصرار الأنجلو أمريكي على مرور سفن شحن العدو الإسرائيلي.
قبل هذا الموقف بثلاثة أيام كانت طائرات أمريكا تقصف اليمن، وتزعم أن ضرباتها الجوية قد فعلت مالم يفعله عدوان التحالف بحق اليمن منذ تسعة أعوام، والصورة واضحة، إذا كانت كذلك فلما إنزال العلم الأمريكي والتخفي وراء أعلام دولة محيطية نائية.
قصة السفن الأمريكية بأعلام “مارشال” في المياه اليمنية تفسر جزءاً من خداع العالم بالقوة المهيمنة اليوم، حيث الكذب الأمريكي أكثر وضوحاً، فالدعاية والصورة المضخمة للهيمنة جزء من القوة الأمريكية، لهذا تحشد واشنطن ولندن وإسرائيل من بعد، في مواجهاتهم واعتداءاتهم الأخيرة على اليمن كل أنواع الكذب والتلفيق.
هذا يعني أن خيار المواجهة الذي تنتهجه واشنطن في عدوانها على اليمن لا بد أن يتسم بالتضخيم الذي يحاول التعويض عن الهزيمة الحقيقية بانتصار دعائي في العموم، وهذا معناه أن الولايات المتحدة الأمريكية تخفق في كل تفاصيل الحدث، وما يأتي بعده من تداعيات لكنها بحضور بريطانيا تقدم أسلوباً دعائياً يسوق انتصاراً وهمياً.
هو جل ما تبقى لهاتين الدولتين، حيث تستميتان في الدفاع عن سفاح “تل أبيب”، وتمعنان في حرب الإبادة بحق سكان وأطفال غزة من خلف ستار إسرائيل العنصرية.
لم يغير العدوان الجديد الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على اليمن منذ 11 يناير الماضي وحتى ضربات 3 فبراير من التقييم السائد لجدوى القصف الذي بدأته الدولتان، ومن يتخفى وراءها من دول المنطقة.
بعد عدوان أمريكا لندن الجوي على اليمن في 11 يناي ، زعمت وزارتا الدفاع الأمريكية والبريطانية، أن تلك الضربات ، كانت ناجحة، وستؤدى إلى إضعاف وتعطيل القدرة العسكرية للقوات المسلحة اليمنية.
لكن تقارير وسائل إعلام أمريكية تشير إلى أن الهدف المعلن بالحد من قدرات قوات صنعاء ونظام المجلس السياسي الأعلى، على شن المزيد من الهجمات لن يتحقق بهذه الطريقة.
هذه الطريقة التي تشير اليها التقارير الأمريكية هي اللجوء للخيار الأبعد والأصعب باستهداف اليمن وترك جذر المشكلة، وهو حصار ودمار وقتل سكان غزة ، والذي هو بيت القصيد حيث وقف اطلاق النار الأسهل لوقف حالة التوتر في المنطقة والإقليم.
بعد تلك الضربات خرج تقرير نشرته وكالة “اسوشيتد برس” الأمريكية تحدث عما سماها “الموجة الفوضوية من الهجمات التي شملت الولايات المتحدة وحلفائها، وأشار إلى أن الضربات الانتقامية لم تمنع القوات المسلحة اليمنية من حملتها ضد الشحن الإسرائيلي في البحر الأحمر، وأن الحرب الإقليمية الأوسع التي أمضت الولايات المتحدة أشهراً في محاولة تجنبها أصبح أقرب إلى الواقع.
وذكر تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية وقتها أن مسؤولين ومشرعين أمريكيين “يشعرون بالقلق من أن مهاجمة مواقع حكومة المجلس السياسي الأعلى قد دفعت الولايات المتحدة إلى صراع مع “استراتيجية خروج ضعيفة”، ودعم محدود من الحلفاء الرئيسيين، وأن هناك مخاوف من أن عملية “مفتوحة” قد تجر واشنطن إلى صراع آخر لا يمكن التنبؤ به في الشرق الأوسط.
بعد تلك الضربات بحوالي نصف شهر خرج الرئيس الأمريكي بايدن مسجلاً مفارقة في المشهد بالقول إن “الضربات لن توقف الحوثيين” حد قوله.
مع ذلك أكد أن العدوان سيستمر مثله قال المتحدث باسم البنتاغون إن الضربات “لم تنجح في ردع الحوثيين” لكنهم مستمرون!.
وبحسب ما نشرته صحيفة “بوليتيكو” أيضاً فإن تلك الضربات فشلت في ردع بحرية وصواريخ ومسيرات اليمن عن مواصلة منع السفن المتجه للكيان الغاصب في البحر الأحمر وخليج عدن.
تعود تصريحات البنتاغون للقول إن الهجمات على اليمن لن تنجح في تحقيق الهدف المتمثل في وقف عمليات قوات صنعاء لأنها مرتبطة بالحرب في غزة، وهذا يخلق مفارقة!
وكما تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية إن القوات المسلحة اليمنية : “ليست جيشاً كلاسيكياً يقاتل ضمن قواعد عسكرية ثابتة، فهو يعتمد على تغيير قواعده وقد أمضى سنوات في قتال السعودية والإمارات ومرتزقتهم، وقد أصبح لديه الآن القدرة والخبرة اللازمة لتصنيع طائرات بدون طيار داخل البلاد”.
تصفهم ب” العُمي”
وبحسب “نيويورك تايمز” فإن قدرات صنعاء لا زالت سليمة، وأن منصات الإطلاق في اليمن يمكن نقلها وإخفائها بسهولة؛ وهو ما يعني بوضوح أن الأمريكيين والبريطانيين الذين تصفهم الصحيفة ب”العمْي” أمام قدرة القوات المسلحة على التكيف مع كل الظروف واستعدادها المسبق لمختلف أوضاع الحرب التي لم تتوقف أصلاً منذ تسع سنوات.
وعلى الرغم من محاولات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تصوير عدوانهما على اليمن كضربة كبيرة ومؤثرة على مسار الموقف اليمني المساند للشعب الفلسطيني، برزت بعض الشطحات الأمريكية البريطانية لتتحول إلى مادة للسخرية لدى المتابع للأحداث.
لقد نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن مسؤول في البنتاغون (لم تسمه) قوله “إن حوالي ربع ترسانة الحوثيين قد تم تدميرها الآن!!
وتحدث رئيس وزراء بريطانيا، ريشي سوناك أن بريطانيا تقوم بتقييم نتائج الضربات في اليمن، حيث مؤشرات “سوناك” الأولية تزعم أن قدرة القوات المسلحة اليمنية على تهديد الشحن التجاري قد تلقت “ضربة قوية”.
ومع الإصرار الأمريكي البريطاني الرسمي على الكذب وتصدير الوهم فإن هذه الصورة المزيفة لم تبد قابلة للتسويق، حيث بدأت تتلاشى بسرعة؛ بفعل حقيقة الوضع على الميدان، والذي يقول إن القوات المسلحة اليمنية قادرة على مواجهة ما هو أكبر بكثير من الضربات الأمريكية البريطانية الأخيرة ، وأن الحسابات التي يعتمد عليها الأمريكيون والبريطانيون في عدوانهم ، قد أثبتت بالفعل فشلها في اليمن خلال أكثر من تسع سنوات ؛ فهم من كانوا وما زالوا يديرون عمليات العدوان السعودي الإماراتي على اليمن.
اليمن الأصعب والأكثر تعقيدًا
في تقرير حول الضربات العدوانية على اليمن، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين أمريكيين قولهم: “إن العثور على أهداف للقوات المسلحة اليمنية اتضح أنه أكثر صعوبة مما كان متوقعاً، متذرعين بأن المخابرات الأمريكية والغربية الأُخرى تجهل الكثير عن موقع الدفاعات الجوية ومراكز القيادة ومستودعات الذخيرة ومرافق التخزين والإنتاج للطائرات بدون طيار والصواريخ”.
وحتى إن لم تكن تجهل، فجغرافية اليمن شديدة التعقيد كفيلة بأمان الترسانة اليمنية.
فالولايات المتحدة وبريطانيا انخرطتا بشكل قيادي ومباشر في الحرب السعوديّة الإماراتية الإجرامية على اليمن طيلة أكثر من تسع سنوات، وهناك أكوام من التقارير والتحقيقات والاعترافات التي أكـدت بشكل واضح على أن الأمريكيين والبريطانيين كانوا هم من يتولى تحديد الأهداف وجمع المعلومات الاستخباراتية إلى جانب التزويد بالسلاح والصيانة وتشغيل المقاتلات.
والحقيقة أن الكثير من المناطق التي استهدفها الاعتداء الأمريكي البريطاني الأخير قد تم استهدافها سابقاً عدة مرات في السنوات الماضية، وهو ما يؤكد بوضوح على أن المسألة لم تختلف كثيراً ولا تتعلق بإنفاق المزيد من الموارد على جمع المعلومات، بل بصعوبة المهمة نفسها، ما يعني أن الأمريكيين لا يعرفون ما إذا كانت هجماتهم تحقق أهدافها أم لا، وبالتالي لا يعرفون بالضبط طبيعة تلك الأهداف.
لقد كان رد قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي دقيقاً وواضحاً، بأن العدوان الأمريكي البريطاني لن يؤثر على قدراتنا العسكرية، وأنه مجرد وهم ودعاية إعلامية، وكان هذا الرد كافٍ.
استعداد للأسوأ
لقد طرحت وسائل إعلام أجنبية مثل “وول ستريت جورنال” و “رويترز” افتراضات تقول إن الاعتداء الأمريكي البريطاني على اليمن يمنح اليمنيين ما يريدونه بالضبط وهو “القتال المباشر معهما، الأمر الذي يجعل مبدأ “الردع” الذي حاولت واشنطن ولندن إرساءه من خلال الاعتداء غير موجود أصلاً، بل إنه كان في الحقيقة أشبه بـ “فخ” وهو ما يعني بالضرورة أنّ كل الحسابات التي يعتمد عليها هذا الاعتداء خاطئة، وبالتالي فــإن النتائج العكسية المفاجئة واردة بشكل كبير.
وتعكس هذه التناولات في وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية أن هشاشة التحرك العدائي ضد اليمن واضحة منذ البداية وبشكل واضح، حتى مع وجود الحملة الدعائية المكثفة لتهويل هذا التحرك وتضخيمه، وهو ما يعني بوضوح أن احتمالات فشل هذا التحرك وارتداده بنتائج عكسية هي الأكثر حضوراً في المشهد.
سلوك مجنون
يقول الباحث في مركز الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون بول بيلار إن التصعيد الأمريكي، الذي حدث بالفعل، يعقد الصورة، ولا يمكن إلا أن يضر بآفاق السلام اليمني، وسيؤدي إلى تفاقم اتساع نطاق الحرب الإسرائيلية على غزة.
وكتب أن “الهجوم الأمريكي على اليمن هو تصعيد ونتيجة للهجوم الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، وأن الضربات ضد اليمن تنطوي على أضرار أخرى، كتعريض فرص التوصل إلى تسوية دائمة للحرب داخل اليمن للخطر، حيث ولّدت تلك الحرب ما كان على الأرجح أكبر كارثة إنسانية مستمرة من صنع الإنسان في العالم، إذ أن التصعيد الأمريكي الذي حدث بالفعل يعقد الصورة، ولا يمكن إلا أن يضر بآفاق السلام اليمني، ولا يساعدها”.
ويضيف: “أما الضرر الأعم فيتكون من التكاليف والمخاطر المرتبطة بأي توسع للحرب الإسرائيلية في غزة، وتشمل هذه مخاطر تحفيز المزيد من التصعيد في أماكن أخرى من قبل لاعبين آخرين تأثروا بتلك الحرب، فضلاً عن زيادة النشاط العسكري الأمريكي الذي يؤدي إلى حوادث غير مقصودة تخرج عن نطاق السيطرة”.
ويخلص في نهاية المطاف مع كل زيف فاعلية القصف الأمريكي وعدوانه المتجدد على اليمن الى أنه سيُنظر إلى الضربات الأمريكية على نطاق واسع على أنها دعم أمريكي أكبر للدمار الإسرائيلي لغزة، وهو كذلك بالفعل، وسيضعف رغبة العرب في التعاون مع الولايات المتحدة في مسائل أخرى. كما أنه يزيد من احتمال وقوع أعمال انتقامية ضد الولايات المتحدة من أولئك الغاضبين من تواطؤ الولايات المتحدة فيما يعتبره الكثيرون في العالم إبادة جماعية”.
هذه المؤشرات والحقائق لحالة الضعف الأمريكي تقابلها صورة حقيقية تتحدث أن الترسانة اليمنية بخير، ويكفي تأكيد على ذلك ما ساقه السيد القائد اليوم من تحذير للأمريكيين والتحالف المعتدي والقول: “إنني أحذرهم وأقول أن عليهم أن يوقفوا عدوانهم على غزة وأن يكفوا عن حصارهم وإلا فسوف نسعى إلى التصعيد أكثر فأكثر”.
لعل هذا أبلغ رد على الكذب الأنجلو أمريكي.