آخر الأخبارالمقالات

من غزة 2005 إلى غزة 2025: سيناريو فشل شارون ينتظر نتنياهو


بين انسحابٍ تاريخي مُرْغَمٍ عام 2005 ومحاولة احتلالٍ طموحةٍ عام 2025، تمتد جسورٌ من المفارقات الصادمة في تعامل الكيان الصهيوني مع غزة.

بنيامين نتنياهو، الذي يسير اليوم على خطى مُعاكسة تمامًا لمسار أريئيل شارون، يدفع بكيانه نحو سيناريو كارثي يُعيد إنتاج فشل سلفه – لكن هذه المرة بثمنٍ أعلى وتعقيدٍ أعمق. هذه ليست مجرد مقارنة بين زعيمين، بل هي تشريح لاستراتيجيتين متناقضتين تجاه القطاع عينه: الأولى أدركت حدود القوة العسكرية وانسحبت تحت وطأة الواقع، والثانية تُصرّ على اقتحام المستحيل رغم كل التحذيرات. فكيف يُعيد التاريخ نفسه بأدواتٍ أكثر قسوة؟ ولماذا قد يصبح مصير نتنياهو نسخةً مظلمةً من مصير شارون؟

دبابة الكيان الصهيوني
الكيان الصهيوني تحت مرمي المقاومة

يتجه بنيامين نتنياهو، في ظل ظروفٍ أسوأ وأكثر تعقيدًا بكثير من تلك التي واجهها أريئيل شارون في غزة، دون استخلاص العبر مما قام به الأخير عام 2005 واضطر للانسحاب من القطاع، نحو مستنقع بإعلانه خطة احتلال غزة، وهو مسار لن يُجلب سوى الفشل.

بحسب تقرير لمجموعة دولية في وكالة أنباء “آماج”، وبعد أشهر من حرب غزة والخطط المختلفة التي طرحها رئيس وزراء الكيان الصهيوني لإطالة أمد هذه الحرب، وصولاً الآن لخطة احتلال غزة كاملةً، تحذر العديد من الأوساط العبرية من تكرار مصير أريئيل شارون، رئيس الوزراء السابق للكيان المحتل، لنتنياهو؛ حيث اضطر شارون عام 2005 إلى قبول الهزيمة في قطاع غزة والانسحاب منه.

أعلن نتنياهو خلال الأيام الماضية خطته لاحتلال قطاع غزة كاملاً، مما أثار ردود فعل داخلية وخارجية واسعة. زعم نتنياهو أن الهدف من هذه الخطة هو إعادة الأسرى الإسرائيليين أحياءً أو أمواتًا، وإنهاء حكم حماس عبر السيطرة العسكرية المؤقتة على كامل القطاع، ثم إقامة حكومة مدنية فيه لا تعتمد على حماس أو السلطة الفلسطينية.

لكن هناك مقارنة لا يمكن إنكارها بين هذه الخطة وما قام به أريئيل شارون عام 2005 في غزة. كان شارون أحد أبرز القادة السياسيين والعسكريين للكيان الصهيوني، لكنه اضطر إلى الاعتراف بأن الاحتلال المباشر لقطاع غزة على جميع المستويات السياسية والإنسانية والاقتصادية مكلف للغاية.

في الواقع، أدرك شارون أن احتلال إسرائيل لقطاع غزة منذ يونيو 1967 لم يحقق أي مكاسب استراتيجية طويلة الأمد لهذا الكيان. لكن اليوم، بعد مرور 20 عامًا، يبدو أن نتنياهو يتحرك في الاتجاه المعاكس لشارون؛ غير أن نهايته قد تكون مشابهة، أو حتى أكثر مرارة بكثير.

عندما قرر أريئيل شارون الانسحاب من غزة عام 2005، لم يكن ذلك مجرد قرار تكتيكي عابر؛ بل كان نتيجة تقييم شامل للوقائع الميدانية والضغوط، وقد أدرك شارون في ذلك الوقت عدة نقاط:

  • الكلفة البشرية: وجود الجيش الإسرائيلي في غزة كان يكاد يوميًا يسفر عن سقوط قتلى من الجنود الصهاينة في عمليات مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ويتسبب بخسائر بشرية كبيرة لهذا الجيش.
  • الكلفة الاقتصادية: حماية المستوطنات داخل غزة تطلبت تكاليف باهظة لم يستطع الكيان الصهيوني تحملها، خاصة مع استمرار المواجهات في هذا الشريط.
  • العزلة الدولية: الاحتلال المباشر لغزة زاد من عزلة إسرائيل دوليًا وأثار انتقادات غير مسبوقة ضد هذا الكيان في المحافل الدولية.
  • الجدوى الاستراتيجية: احتلال غزة لم يُقضِ على التهديدات ضد إسرائيل فحسب، بل زاد من حدتها وزاد من دافع الفلسطينيين للمقاومة.

لذلك خلص شارون إلى أن الانسحاب الأحادي من غزة يمكن أن يخفف العبء عن تل أبيب إلى حد كبير، ويحافظ على هيبة الجيش داخليًا، ويوفر لإسرائيل التركيز اللازم للسيطرة على الضفة الغربية ومشاريع الاستيطان فيها.

كما رأى أنه يمكن استخدام الانسحاب من قطاع غزة كجزء من خطته لتعطيل عملية التسوية مع السلطة الفلسطينية وعزل هذه السلطة أكثر في الضفة الغربية. كانت هذه الحسابات واقعية في ذلك الوقت وأدت في النهاية إلى قرار شارون بالانسحاب.

في المقابل، يقترح نتنياهو الآن خطة تتناقض تمامًا مع تجربة شارون؛ لدرجة أن عددًا كبيرًا من القادة العسكريين والأمنيين للكيان، بمن فيهم إيال زامير، رئيس أركان الجيش، يعتبرون التقدم في غزة فخًا استراتيجيًا، ويعتقدون أن احتلال غزة التي يزيد عدد سكانها عن مليونيْ شخص أمر بالغ الصعوبة، وأن القوات العسكرية الإسرائيلية منهكة ومستنزفة. علاوة على ذلك، فإن مثل هذا القرار يعرض حياة الأسرى الإسرائيليين الموجودين في غزة للخطر.

هذه الخطة، التي أقرتها حكومة الكيان الصهيوني في جلسة استمرت 10 ساعات فجر يوم الجمعة الماضي، من المقرر أن تشمل ما يلي:

  • ترحيل واسع النطاق لما يقرب من مليون فلسطيني من شمال غزة إلى جنوب القطاع.
  • تفتيت قطاع غزة بإنشاء ممرات أمنية مثل معبر “موراغ” لفصل مناطق غزة عن بعضها البعض.
  • إقامة حكومة مدنية عربية؛ وهو اقتراح ترفضه معظم الجهات العربية.
  • تصعيد العمليات العسكرية في المناطق الحضرية وهي المرحلة الأكثر تكلفة وخطورة على الجنود الإسرائيليين.
العدوان علی غزة یکبد الاقتصاد الاسرائیلي بخسائر فادحة
العدوان علی غزة یکبد الاقتصاد الاسرائیلي بخسائر فادحة

رغم الإعلان عن عموميات خطة نتنياهو، يعتقد المحللون الصهاينة أن هذه الخطة أشبه بإعلان نوايا سياسي منها باستراتيجية عسكرية عملية طويلة الأمد؛ خاصة وأن جزءًا كبيرًا من الرأي العام الإسرائيلي يتفق مع موقف قيادة الجيش الرافض للخطة.

بالإضافة إلى ذلك، يحذر الجهاز الأمني للكيان الصهيوني، مشيرًا إلى مخاطر حرب الشوارع في غزة، من وقوع سيناريو كارثي للجنود الإسرائيليين في مواجهة عمليات المقاومة الفلسطينية الفتاكة. تشير التقارير إلى أن ما يقرب من 250 ألف جندي صهيوني سيتم استدعاؤهم لتنفيذ هذه الخطة، مما أثار مخاوف واسعة في المجتمع الصهيوني، سواء بشأن تفاقم الأزمة الاقتصادية نتيجة استمرار تجنيد قوات الاحتياط (التي تشكل العمود الفقري للقوة العاملة في السوق المحلية)، أو خشية على أرواح الجنود.

تُظهر المقارنة الدقيقة بين الظروف الميدانية في عامي 2005 و 2025 أن الوضع الحالي أصبح أكثر تعقيدًا وخطورة على الإسرائيليين. لم يعد ميدان غزة اليوم مجرد منطقة جغرافية يمكن السيطرة عليها بالقوة العسكرية الخالصة، وفي هذا الصدد يجب الإشارة إلى النقاط التالية:

  • المقاومة المسلحة في غزة أصبحت اليوم أكثر خبرة وتكتيكًا مما كانت عليه عام 2005، بشبكة واسعة من الأنفاق وخبرة متقدمة في القتال الحضري.
  • ازدادت الكثافة السكانية في قطاع غزة مما يزيد صعوبة العمليات ومعدل الخسائر المدنية، ويؤدي إلى تصاعد الضغوط الدولية على الصهاينة.
  • سيكون الدعم الشعبي للمقاومة بين الفلسطينيين أقوى في الفترة المقبلة، وأي احتلال كامل لقطاع غزة سيعزز هذا الدعم.
  • دخل جيش الكيان الصهيوني مرحلة استنزاف غير مسبوقة بعد حوالي عام من الحرب، ويعاني من أزمة حادة في الموارد البشرية.

هذه المعطيات تعني أن ما كان صعب التحقيق بالنسبة لشارون قبل عقدين، أصبح شبه مستحيل اليوم بالنسبة لنتنياهو.

على المستوى الداخلي، هناك خلاف حاد بين القادة العسكريين والسياسيين للكيان الصهيوني حول خطة احتلال غزة، كما أن معارضي حكومة نتنياهو لا يرون في هذه الخطة أكثر من محاولة لكسب دعم شركائه من اليمين المتطرف والبقاء في السلطة وسط محاكمته بتهم فساد مالي.

كما تؤكد الأوساط العبرية أنه بالنظر إلى الخسائر البشرية والمادية المتزايدة لإسرائيل في غزة، فإن استمرار الحرب لفترة أطول سيؤدي فقط إلى تفاقم هذه الخسائر وعزلة إسرائيل الدولية الأكبر. علاوة على ذلك، خيبت المواجهة مع إيران في يونيو الماضي آمال المجتمع الإسرائيلي، بعد أن تمكنت الصواريخ الباليستية الإيرانية من استهداف مواقع صهيونية في عمق فلسطين المحتلة، وإجبار ملايين الإسرائيليين على البقاء في الملاجئ لمدة أيام، وتسريع وتيرة الهجرة العكسية.

على الصعيد الدولي، رفضت الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والعديد من الدول الأوروبية خطة احتلال غزة واعتبرتها تصعيدًا خطيرًا للأوضاع سيرافقه كارثة إنسانية كبيرة. حتى حلفاء الكيان الصهيوني الغربيين حذروه من أن استمرار الحرب قد يدفع إسرائيل إلى عزلة دولية أعمق ويؤدي إلى قيود على الدعم العسكري الغربي له.

بغض النظر عن النقاش حول قدرة نتنياهو على احتلال قطاع غزة بنجاح، يبقى السؤال الجوهري دون إجابة شافية: ما هي الخطوة التالية؟ خاصة مع رفض معظم الدول العربية صراحةً لقبول خطة إسرائيل لإقامة حكومة مدنية عربية في غزة. من ناحية أخرى، يرفض الرأي العام العربي والفلسطيني أي تعاون مع الكيان الصهيوني ويعتبرونه خيانةً للقضية الفلسطينية.

لذلك، فإن الاحتلال المباشر لقطاع غزة يعني الدخول في مستنقع استنزاف عسكري وأمني واقتصادي مستمر، والعودة إلى الوضع الذي كان أريئيل شارون يسعى للفرار منه قبل 20 عامًا.

أما خيار الإدارة الدولية لغزة، فتطبيقه يتطلب إجماعًا دوليًا يكاد يكون مستحيلاً نظرًا للخلافات الحادة في النظام الدولي والمصالح المتضاربة للقوى الكبرى. ناهيك عن أن الكيان الصهيوني نفسه يرفض تسليم غزة لأي كيان دولي؛ خشية أن يقيد ذلك حرية عملياته العسكرية والأمنية فيها.

غياب الإجابة الواضحة والحاسمة على سؤال ما بعد الحرب يجعل أي نجاح عسكري للجيش الصهيوني، مهما بدا كبيرًا في البداية، هشًا وقصير الأمد، وسرعان ما يتبدد تحت وطأة الواقع الميداني والسياسي. تؤكد التجارب السابقة للكيان الصهيوني هذه النتيجة؛ بما في ذلك انسحابه من جنوب لبنان عام 2000 والانسحاب من غزة عام 2005.

ما حصل في السابع من أكتوبر هو أهم عملية هجومية دفاعية من المقاومة الفلسطينية
ان طوفان الأقصى هي حركة منطقية وصحيحة وهي من حق الشعب الفلسطيني

احتلال قطاع غزة لا يمكن بأي حال أن يوفر الأمن للكيان الصهيوني، بل يفتح أمامه جبهة قتال دائمة وتتضاعف التهديدات ضده. في الوقت نفسه، أي وجود عسكري في بيئة حضرية مكتظة بالسكان يعني حرب شوارع تُنهك الجيش المحتل وتستنزف موارده وتضع اقتصاده تحت الضغط. بالإضافة إلى ذلك، يجب أخذ ضغط الرأي العام الدولي ضد إسرائيل في الاعتبار، والذي قد يفرض عقوبات وضغوطًا اقتصادية غير مسبوقة عليها.

عندما انسحب شارون من غزة عام 2005، كان يعلم أن الاحتلال لا يخدم المصالح طويلة الأجل لإسرائيل وأن تكاليفه تفوق فوائده بكثير. لكن نتنياهو اليوم يتجاهل كل هذه الدروس ويدخل، في بيئة أكثر تعقيدًا وعدائية وبدون رؤية استراتيجية واقعية، في مغامرة محفوفة بالمخاطر.

لكن بشكل عام، حتى لو نفذ الكيان الصهيوني خطة احتلال غزة، فلن يتمكن من البقاء بشكل دائم في هذا الشريط، وسيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى الانسحاب، وربما تحت ضغوط أشد مما واجهه شارون عام 2005، أن يقبل الهزيمة ويغادر غزة. وهكذا سيجد نتنياهو نفسه في النهاية يغادر غزة؛ ليس كخيار تفاوضي، بل كضرورة لا مفر منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى